الرسالة القيمة
في الأسباب الجالبة لمحبة الله عزوجل
 
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد أفضل الرسل وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
فاعلم أخي الحبيب ـ رحمني الله وإيَّاك ـ أن محبة الله تعالى ومحبة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أعظم ما يحبه الله ويرضاه فلهذا شمَّرَ المشمِّرون، وتسابق المتسابقون، وتنافس المتنافسون وأطاع الطائعون فيالها من عِزةٍ ليس بعدها عِزة وشرف ما بعده شرف أن تُحب الله ورسوله كما يُرضي الله تعالى ويرضي رسوله ـ صلى الله عليه وسلم.
قال الفيروز آبادي ـ رحمه الله ـ: "ومتى بطلت مسألة المحبة بطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان وتعطّلت منازلُ السَّير فإنها رُوح كل مقام ومنزلةٍ وعمل، فإذا خلا منها فهو ميِّت، ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها، بل هي حقيقة الإخلاص بل هي نفس الإسلام، فإنه الإستسلام بالذُّل والحُبِ والطاعة لله، فمن لا محبة له لا إسلام له البتَّه" ]بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز )2\420 - 421(للفيروز آبادي ]
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى ومحبة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب:
الأسبابُ الجالبةُ للمحبة عشرة كما ذكرها العلامة ابن القيم في المدارج:
الأول: قراءة القرآن بالتَّدبّر والتّفهُّم لمعانيه وتفطُّن مراد الله ـ تعالى ـ منه.
فلقد حث الله تعالى عباده على تدبر كتابه الكريم في مواضع منها:
قوله تعالى :"أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" [ النساء : 82 ] 
وقوله تعالى: "أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ" [ المؤمنون : 68 ]
وقوله تعالى : " كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ " [ ص : 29 ]
وقوله تعالى : " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا " [ محمد : 24 ]
فتدبر القرآن فيه اطمئنان للقلوب وهو الطريق إلى رضا الرحمن، وفيه أسرار العبودية والتوحيد وفيه أنوار الإيمان وألطاف الإحسان فما أجمل الحياة مع القرآن وأما أحسن تلك الأوقات التى تنظر بعينيك إلى تلك الآيات التى هي سبيل سعادتك ومفتاح فلاحك إنه القرآن بابك إلى الجنان وشفيعك من النيران إنه القرآن أيها الإنسان به يحفظك الله من كيد الشيطان وبالإعتصام به ترتقى في معالم الإيمان إنه القرآن مفتاح السعادة وعنوان الفلاح ولذة الأرواح فليكن هو جليسك وهو أنيسك وحينها ستعرف معنى الحياة الحقيقية إنها الحياة مع القرآن وكفى بها حياة ولكي تحقق التدبر فعليك بالأسباب المعينة على ذلك وهي:
أ‌.         معرفة الله تعالى معرفة صحيحة وتعظيمه جل وعلا فهذه المعرفة هي الباب العظيم لتدبُّر كلامه فإن من امتلأ قلبه بمعرفة الله تعالى وتعظيمه عظَّم كلامه وتمعَّن فيه وأصغى إليه متأملاً متدبراً.
ب‌.     التمهل والتأني عند القراءة:قال تعالى " وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا " [ المزمل : 4 ]
قال الحافظ بن كثيرـ رحمه الله ـ " أي أقرأه على تمهل، فإنه يكون عوناً على فهم القرآن تدبره " [ تفسير القرآن العظيم 427 ]
ج‌.      فهم القرآن: فهم القرآن هو أساس التدبر الصحيح وذلك بفهم المراد من كلام الله تعالى، وفهم القرآن شامل لفهم معاني الآيات ـ بحيث يفهم القارئ معاني الكلمات ويقرأ تفسيرها مع ملازمة شيخ متقن ـ ولفهم المقصود من إيراد الآيات وبهذا يفهم القارئ مقاصد القرآن.
د. تحسين الصوت عند القرآءة: وللصوت الحسن أثر كبير في تدبر كلام الله تعالى وقد حث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تزيين الصوت عند القرآن فقال : " زيِّنُوا القرآن بأصواتكم " [ رواه أبو داود ص (1332) رقم (1468) والنسائي (2153) برقم (1016) و (1017) وابن ماجة (2556) رقم (1392) عن البراء بن عازب وانظر السلسلة الصحيحة للألباني ـ رحمه الله ـ (2\401) رقم (771) ]
هـ . فهم لوازم النص ومقاصده: وهذا من أعظم أسباب التدبر فإن القرآن كثيراً ما يذكر في القصص مواطن العبرة ويترك للفؤاد والعقل مطلق التأمل والتدبر في ما لم يذكر ويدخل في هذا السبب معرفة مقاصد سور القرآن وآياته وهو باب عظيم لتدبر القرآن الكريم وتطبيقاته في كتب التفسير كثيرة وهذا السبب مؤثر جداً في التدبر خاصة في القصص القرآني والأمثال القرآنية .
الثاني:التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصل إلى درجة المحبوبية بعد المحبة.
 ففيما خرَّجه البخاري ـ رحمه الله ـ في باب التواضع من كتاب الرقائق:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّ اللَّهَ تعالى قَالَ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُه عَلَيْهِ وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ولَئنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قبض نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ " [ رواه البخاري برقم (652) وأخرجه ابن حبان (2\58) رقم (347) ]
الثالث : دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة قدر نصيبه من هذا الذكر.
ففيما رواه البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقول الله تعالى : ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) [ البخاري برقم (7405)]
والمعية المذكورة في الحديث في قوله تعالى "وأنا معه إذا ذكرني" هي المعية الخاصة للذاكرين والذاكرات وهي معية بالرعاية والهداية والكفاية والتوفيق والسداد وهذه كلها ثمار المحبة.
وهناك المعية العامة وهي معية القدرة والمشيئة الإحاطة بالعلم والقهر وهذه لجميع الخلق المؤمنين والكافرين لا يخرج عنها أحد من الخلق.
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى: فمن الحقائق التى أكدها القرآن الكريم أنه اعتبر اتباع أهواء النفس الأمارة بالسوء من أخطر الأسباب التى تسوق الإنسان إلى الضلال والهلاك وتعمي القلوب ولذلك فإن إيثار محاب الله عزوجل ورضاه والتحلي بهذا الخلق النبيل هو مفتاح النجاة من عبادة الهوى الذي يقول عنه الله عزوجل " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ " [ الجاثية : 23 ]
وقد حثنا الله على جميل عاقبة التحلي بخلق إيثار رضاه عزوجل على أهواء النفس الأمارة بالسوء فقال تعالى: "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى"[النازعات: 40-41]
ولا شك أنه لا يدخل جنة الله تعالى إلا من أحبَّه الله تعالى .
وقد أخرج الترمذي في (جامعه) وابن حبان في (صحيحه) باسناد صحيح عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ حين كتب إليها معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما ـ يقول :" اكتبي لي كتاباً توصيني فيه ولا تكثري " فكتبت إليه ـ رضي الله عنها ـ تقول :" أما بعد، فقد سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول :" من التمسَ رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومَنْ التمس رضا الناس بسخط الله سخِط الله عليه وأسخط الناس " [ الترمذي برقم (2414) كتاب الزهد وابن حبان برقم (276)]
قال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ :" فمن تحقق أن كلَّ مخلوق فوق التراب فهو تراب فكيف يقدم طاعة مَنْ هو تراب على طاعة ربِّ الأرباب ؟ أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب ؟ إن هذا لشئ عجاب . [ راجع تيسير العزيز الحميد ص: 436]
وهذا نموذج فريد يوضح أن مَنْ آثر رضا الله رفعه الله وقرَّبه، في موعظة الحسن البصري ـ رحمه الله ـ لابن هُبيرة :" لما وُلي ابن هُبيرة ـ وهو أميرالعِراقيْن ـ العِراق وخرسان ليزيد بن عبد الملك ، بعث إلى الحسن البصري، وابن سيرين والشعبي فاحتفى بهم وأحسَنَ مثواهم، ثم قال : إنّ الخليفة أخذ من الناس عهودهم وأعطاهم عهده ، كيْ يسمعوا له ويطيعوا، وأنَّه تأتيني منه كتب إن أمضيتُها أسخطتُ الله، وإن أهملتُها أسخطتُ أميرالمؤمنين، فماذا تأمرون؟ فأجاب الشعبيُّ بكلام فيه تقيَّة وسكت ابن سيرين فقال: يا أبا سعيد ما تقول؟ فقال الحسن: يا أبن هُبيرة، خَفِ اللهَ في يزيدَ ولا تخف يزيدَ في الله، فإنَّ اللهَ ـ عزوجل ـ مانِعُك من يزيد ولن يمنعك يزيدُ من الله، يا ابن هُبيرة أنَّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فما كتب إليك يزيدُ فأعرضه على كتاب الله، فما وافقه فأنفِذه وما خالَفهُ فلا تُنفِذْه فإنَّ الله أولى بك من يزيد، وكتابُ الله أولى بك من كتابه، ومازال به حتى أبكاه ، فما كان من الوالي بعد أن انصرف في عَبرته إلا أن أرسل إليهم جوائزهم، فأعطى الحسنَ أربعة آلاف درهم، وصاحبيْه ألفيْن ألفيْن فنادى الشعبيّ على باب المسجد: مَنْ قدَرَ منكم أن يؤثر الله على خلقه فليفعل، فإنَّ الأمير قد سألنا عن أمر الله، ما عَلِمَ الحسنُ شيئاً جهلتُه وما علِمتُ شيئاً جهلَهُ ابنُ سيرين ولكنا أردْنا وجهَ الأمير فأقصانا الله ـ عزوجل ـ وقصَر بنا وأراد الحسنُ وجه الله فحباه تبارك اسمُه وزاده "  [ حلية الأولياء (2/149)]
وما أجمل ما قاله الحسن البصري ـ رحمه الله تعالى ـ :" يا ابن آدم لا تُرضِ أحداً بسخط الله، ولا تُطِيعنَّ أحداً في معصية الله "
 [ الطبقات لابن سعد (7/175)]
فمن آثر الله واتقاه، وقدَّم مرضاته على هواه، جمع الله حوله القلوب ودفع عنه عوادِيَ الخطوب، وجعل له من عدوه نصيراً، ومن مناوئه ظهيراً، ألا وإنَّ من باع دينه بدنياه وخشي الناس ولم يخش الله، هتك الله سِتره ونكَس عليه أمْرَه، وصَرَف عنه قلوب العباد، ولم يُبلِّغه حظاً مما أراد وسبحان مُقلب القلوب والأبصار يُصرِّفها كيف يشاء !
الخامس : مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته ومشاهدتها وتقلُّبه في رياض هذه المعرفة ومباديها فمن عَرَفَ الله ـ بأسمائه وصفاته وأفعاله ـ أحبَّه لا محالة :
يقول العلامة ابن القيِّم ـ رحمه الله تعالى ـ في مدارج السالكين :" فصل : المشهد الثامن : مشهد الأسماء والصفات وهو من أجلّ المشاهد والمطلِّع على هذا المشهد: معرفة تعلّق الوجود خلقاً وأمراً بالأسماء الحسنى والصفات العلى، وارتباطه بها، وإن كان العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها .
وهذا من أجلِّ المعارف وأشرفها، وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة، فإنّ أسماءه أوصاف مدح وكمال، وكلِّ صفة لها مقتضٍ وفعل: إمَّا لازم وإمَّا متعدٍ .
ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه، وهذا في خلقه وأمره وثوابه وعقابه كل ذلك آثار الأسماء الحسنى وموجباتها .
ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها، وتعطيل الأوصاف عمّا تقتضيه وتستدعيه من الأفعال، وتعطيل الأفعال عن المفعولات كما أنّه يستحيل تعطيل مفعوله عن أفعاله، وأفعاله عن صفاته، وصفاته عن أسمائه، وتعطيل أسمائه وأوصافه عن ذاته.
وإذا كانت أوصافه صفات كمال، وأفعاله حِكَماً ومصالح، وأسماؤه حسنى، ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقِّه، ولهذا ينكر سبحانه على مَنْ عطَّله عن أمره ونهيه وثوابه وعقابه، وأنَّه بذلك نسبه إلى ما لا يليق به وإلى ما يتنزه عنه، وأنّ ذلك حكم سئ ممن حكم به عليه، وأنّ من نسبه إلى ذلك فما قدّره حق قدره، ولا عظمَّه حقَّ تعظيمه، كما قال تعالى في حقِّ منكري النُّبوة وإرسال الرسل وإنزال الكتب:" وما قدروا الله حقَّ قدْرِهِ إذْ قالوا ما أنزل اللهُ على بشر من شئ" [ الأنعام: 91]  وقال تعالى في حقِّ منكري المعاد والثواب والعقاب:" وما قدَرُوا اللهَ حقَّ قدرِهِ والأرضُ جميعاً قبضتُهُ يوم القيامةِ والسماواتُ مطوياتٌ بيمينه " [ الزمر: 67 ]
وقال في حقِّ من جوّز عليه التسوية بين المختلفيْن كالأبرار والفجار، والمؤمنين والكفار:" أم حسب الذين اجْتَرحُوا السيئاتِ أنْ نجعَلَهُم كالذين ءآمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون" [ الجاثية: 21]
فأخبر أنّ هذا حكم سئ لا يليق به، تأباه أسماؤه وصفاته، وقال سبحانه:" أفحسبتُم أنَّما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون(115) فتعالى اللهُ الملكُ الحقُّ لا إله إلا هو ربُّ العرش الكريم"  [ المؤمنون: 115ـ116]
عن هذا الظنَّ والحسبان الذَين تأباه أسماؤه وصفاته.
ونظائر هذا في القرآن كثيرة ينفي فيها عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته، إذ ذلك مستلزم تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها .
فاسمه "الحميد المجيد" يمنع ترك الإنسان سدى مهملاً معطلاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب، وكذلك اسمه "الحكيم" يأبى ذلك، وكذلك اسمه "الملك" واسمه "الحيّ" يمنع أن يكون معطلاً من الفعل، بل حقيقة الحياة الفعل، فكلُّ حيّ فعّال، وكونه سبحانه خالقاً قيُّوماً من موجبات حياته ومقتضياتها، واسمه "السميع البصير" يوجب مسموعاً ومرئياً، واسمه "الخالق" يقتضي مخلوقاً وكذلك "الرزاق" واسمه "الملك" يقتضي مملكة وتصرفاً وتدبيراً وإعطاءً ومنعاً وإحساناً وعدلاً وثواباً وعقاباً واسم "البرّ، المحسن، المعطي، المنان" ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها.
إذا عرف هذا فمن أسمائه سبحانه "الغفار، التوَّاب، العفو"  فلابد لهذه الأسماء من متعلقات، ولابدَّ من جناية تُغفر وتوبة تُقبل، وجرائم يُعفى عنها، ولابد لاسمه "الحكيم" من متعلق يظهر فيه حكمه، إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء اسم " الخالق، الرازق، المعطي،المانع" للمخلوق والمرزوق والمُعْطى والممنوع، وهذه الأسماء كلها حسنى .
والربُّ تعالى يحبُّ ذاته وأوصافه وأسماءه، فهو عفو يحب العفو، ويحب المغفرة، ويحب التوبة،ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال .
وكان تقدير مايغفره ويعفو عن فاعله ويحلم عنه ويتوب عليه ويسامحه من موجب أسمائه وصفاته، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك وما يحمد به نفسه ويحمده به أهل سمواته وأهل أرضه ما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده.
وهو سبحانه الحميد المجيد وحمده ومجده يقتضيان آثارها .
ومن آثارها: مغفرة الزلات وإقالة العثرات والعفو عن السيئات والمسامحة على الجنايات مع كمال القدرة على استيفاء الحقّ والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدارعقوبتها، فحلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته، كما قال المسيح ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" إن تعذبْهُم فإنَّهم عبادك وإنْ تغفرْ لهم فإنَّكَ أنتَ العزيزُ  الحكيم" [سورة المائدة : 118] أي : فمغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك ، لست كمن يغفر عجزاً ويسامح جهلاً بقدر الحق ، بل أنت عليم بحقك ، قادر على استيفائه ، حكيم في الأخذ به.
فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر تبين له أنَّ مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد وتقديرها هو كمال الأسماء والصفات والأفعال ، وغايتها أيضاً مقتضى حمده ومجده ، كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته. فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة والآيات الباهرة ، والتعرفات إلى عباده بأسماءه وصفاته ، واستدعاء محبتهم له ، وذكرهم له ، وشكرهم له ، وتعبدهم له بأسماءه الحسنى ، إذ كل اسم فله تعبد مختص به علماً ومعرفة وحالاً. وأكمل الناس عبودية: المتعبِّد بجميع الأسماء والصفات التى يطلع عليها البشر ، فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر ، كمن يحجبه التعبد بسمه " القدير" عن التعبد بسمه "الحليم الرحيم" أو يحجبه عبودية اسمه "المعطي" عن عبودية اسمه المانع أو عبودية اسمه "الرحيم" و "العفو" و "الغفور" عن اسمه "المنتقم" أو التعبد بأسماء التودد والبر واللطف والإحسان عن أسماء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء ونحو ذلك ، وهذه طريقة الكُمَّل من السائرين إلى الله ، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن ، قال الله تعالى : " وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا " [الأعراف : 180]
والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ... فهو عليم يحب كل عليم ، جواد يحب كل جواد ، وتر يحب الوتر ، جميل يحب الجمال ، عفو يحب العفو وأهله ، حيي يحب الحياء وأهله ، برُّ يحب الأبرار ، شكور يحب الشاكرين ، صبور يحب الصابرين ، حليم يحب أهل الحلم ، فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة والعفو والصفح خلق من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له ، ليترتب عليه المحبوب له المرضي له ، فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة المفضية إلى المحبوب ، فربما كان مكروه العباد إلى محبوبها سبب ما مثله سبب ، والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع:
1.       محبوب يفضي إلى محبوب.
2.       ومكروه يفضي إلى محبوب.
 وهذان النوعان عليها مدار أقضيته وأقداره سبحانه بالنسبة إلى ما يحبه وما يكرهه.
3.       مكروه يفضي إلى مكروه .
4.       محبوب يفضي إلى مكروه .
وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه، إذ الغايات المطلوبة من قضائه وقدره الذي ما خلق ما خلق ولا قضى ما قضى إلا لأجل حصولها لا تكون إلا محبوبة للربِّ مرضيةً له، والأسباب الموصلة إليها منقسمة إلى محبوب له ومكروه له، فالطاعات والتوحيد أسباب محبوبة له موصلة إلى العدل المحبوب له، وإن كان الفضل أحبَّ إليه من العدل فاجتماع العدل والفضل أحبّ إليه من انفراد أحدهما عن الآخر، لما فيها من كمال الملك والحمد وتنوع الثناء وكمال القدرة "    [ مدارج السالكين ج1 ص: 371 ـ 375 ]
الخلاصة من تعرف على الله عزوجل بأسماءه صفاته وأفعاله وتعبده بها أحبه الله عزوجل وقربه.
 
السادس:مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الظاهرة والباطنة :
نِعمُ الله تعالى لا تعد ولا تحصى ، والإنسان في هذه الدنيا يتقلب في نعم الله عزوجل قال تعالى: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" [النحل : 18]
 يقول الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسير هذه الآية:" ثم نَبَّههُم على كثرة نعمه عليهم و إحسانه إليهم فقال "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" أي يتجاوز عنكم ولو طالبكم بشكر نعمه لعجزتم عن القيام بذلك ولو أمركم به لضعفتم وتركتم و لو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم ولكنه غفور رحيم يغفر الكثير ويجازي على اليسير" أ هـ
والله سبحانه وتعالى يحب الشاكرين من عباده ويجزل لهم الثواب قال تعالى:"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا  وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" [ ال عمران : 144]
قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله تعالى - : " الشكر مبنيٌّ على خمسة قواعد: خضوع الشاكر للمشكور ، وحبه له ، واعترافه بنعمه ، وثناؤه عليه بها ، وألا يستعملها فيما يكره"
وقال الغزالي ـ رحمه الله تعالى - : " اعلم أن الشكر ينتظم من علم وحال وعمل ، فالعلم معرفة النعمة من المنعم ، والحال هو الفرح الحاصل بإنعامه ، والعمل هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه "
وقد أمر الله نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشكر النعمة فقال " وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ " [ الضحى : 11 ]
وعن النعمان بن بشر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ ، وَمَنْ لَا يَشْكُرِ القليل لَا يَشْكُرِ الْكَثِيرَ ، وَمَنْ لَا يَشْكُرِ النَّاسَ لَا يَشْكُرِ اللَّهَ ، وَالْجَمَاعَةُ بَرَكَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ " [ السلسلة الصحيحة رقم (984) ]
وبالشكر يرضى الله عن عبده يحبه ويحفظ عليه النعمة ويزيدها له لأن الشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة قال تعالى : "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ " [ إبراهيم : 7]
وعن أبي هريرة ـ رضي الله ـ عنه أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - يقول : "  إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى ، فأراد الله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكا ، فأتى الأبرص ، فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، ويذهب عني الذي قد قَذِرَني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه قَذَرُه ، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل ـ أو البقر ـ  شك إسحاق إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما: الإبل وقال الآخر : البقر ، قال : فأعطي ناقة عُشَراء ،  وقال : بارك الله لك فيها ، قال : فأتى الأقرع فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال شعر حسن ، ويذهب عني الذي قد قَذِرَني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه ، وأعطي شعرا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : البقر أو الإبل ، فأعطي بقرة حاملا ، قال : بارك الله لك فيها ، قال : فأتى الأعمى ، فقال : أي شيء أحب إليك ، قال : أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس ، قال : فمسحه فرد الله إليه بصره ، قال : فأي المال أحب إليك ، قال : الغنم ، فأعطي شاة والدًا ، فأنتج هذا وولد هذا ، قال : فكان لهذا واد من الإبل ، ولهذا وادٍ من البقر ، ولهذا وادٍ من الغنم ، قال : ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيرا أتَبَلَّغُ به في سفري ، فقال : الحقوق كثيرة : فقال له : كأني أعرفك ، ألم تكن أبرص يَقْذَرُك الناس ؟! فقيرا فأعطاك الله عزوجل المال؟! فقال : إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر ، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت ، قال : أتى الأقرع في صورته ، فقال له مثل ما قال لهذا ، ورد عليه مثل ما رد على هذا ، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت ، وأتى الأعمى في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك ، شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري ، فخذ ما شئت ودع ما شئت ، فوالله لا أَجْهَدُكَ اليوم بشئ أخذته لله ، فقال : أمسك مالك ، فإنما ابتليتم ، فقد رُضِيَ عنك ، وسُخِطَ على صاحبيك " [ صحيح البخاري رقم (3464) ورقم (6653) ومسلم رقم (2964)]
عن مالك بن نضلة ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت جالسًا عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرآني رث الثياب فقال : « ألك مال ؟ » قلت : نعم يا رسول الله من كل المال قد أعطاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق قال: «إذا آتاك الله مالا فليرَ عليك أثر نعمة الله وكرامته فإن الله عز وجل يحب أن يرى أثره على عبده حسنًا، ولا يحب البؤس والتباؤس» قال: فغدوت إليه في حلة حمراء [رواه الحاكم (17269) وقال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح]
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ : «إن الله جميل يحب الجمال ، يحب إذا أنعم على عبد نعمة أن يرى أثر النعمة عليه ، ويبغض البؤس والتباؤس» [رواه البيهقي ( 6202 ) و انظر صحيح الجامع : (1711،1742)، الصحيحة : (1320) ]
السابع: وهو من أعجبها انكسار القلب بكلّيته بين يديّه: إن لذل القلب وانكساره بين يدي الله عزوجل تأثير عجيب في المحبة ، ويفتح أمام العبد أبواب عظيمة من الخير ويوصله إليها من أقرب طريق حتى أنه يسبق غيره وهو نائم على فراشه.
قيل لبعض الصالحين: أيسجد القلب؟ قال: نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.
قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قسمان .
والانكسار هو الخشوع لله والإخبات له، والتذلل والافتقار، ومراعاة الأدب مع الله، وكلها معانٍ تدل على خشوع القلب لله تعالى، كان الحسنُ بن علي ـ رضي الله عنهما ـ إذا توضأ اصفرَّ لونه فقيل له: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين من أريد أن أقوم؟ لقد كان القوم يحبون ويحيون الصلاة، فتحيا قلوبهم بها وتقر أعينهم فيها وكيف لا تقرأعينهم بها وهي حية في قلوبهم.
قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ" وليس في الدُّنيا نعيم يشبه نعيم أهل الجنة إلا في هذا ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" حُبِّب إليَّ من دنياكم النِّساء والطيب وجعلت قرَّة عيني في الصلاة " فأخبر أنه حبب إليه من الدُّنيا شيئان النساء والطيب ثم قال جعلت قرة عيني في الصلاة وقرة العين فوق المحبَّة فإنَّه ليس كل محبوب تقر به العين وإنما تقر العين بأعلى المحبوبات الذي يحب لذاته وليس ذلك إلا الله الذي لا إله هو وكل ما سواه فإنما يحب تبعاً لمحبته فيُحَب لأجله ولا يحب مَعَهُ فإنَّ الحبَّ مَعَه شرك والحبَّ لأجله توحيد"         [ كتاب أرسله ابن القيم إلى بعض إخوانه :ص:59 وما بعدها ]
[ وحديث " وجعلت قرة عيني في الصلاة " أخرجه النسائي في كتاب عشرة النساء برقم (3939) عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ  ]
الثامن: الخلوة به وقت النُّزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقالب والقلب بين يديْه، ثمّ ختم ذلك بالاستغفار والتوبة:
وهذا السبب من أبلغ أسباب المحبَّة لأنَّه من أصدق دلائل الأدب في العبودية مع الله، وقد أثنى الله تعالى على أهل قيام الليل في قوله تعالى:" كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون " [ الذاريات : 17 ـ18]
وقال تعالى :" تتجافى جُنُوبهم عن المضاجع يدعون ربَّهم خوفاً وطمعاً وممَّا رزقناهم ينفقون"  [ السجدة : 16 ]
 عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله، أخبرني بعمل يُدخلني الجنة ويُباعدني عن النَّار ، قال :" لقد سألت عن عظيم وإنّه ليسيرٌ على مَنْ يسَّرَه الله تعالى عليه، : تعبدُ الله لا تشركُ به شيئا ، وتقيمُ الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت" . ثم قال : ألا أدلُّك على أبواب الخير : الصوم جُنَّة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم تلا : " تتجافى جنوبهم عن المضاجع ـ حتى بلغ ـ يعلمون"  ثم قال :" ألا أخبرُك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه " قلتُ : بلى يا رسول الله ، قال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ، ثم قال : "ألا أخبرك بملاك ذلك كله " فقلتُ : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه ، قال : "كف عليك هذا" قلت : يا نبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك ، وهل يكُبُّ الناس في النار على وجوههم ـ أو قال على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم ". رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح برقم (2616) والنساءي برقم (11394) وابن ماجة برقم (3973) وحسنه الألباني في الإرواء (2/139)].
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ  أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له " [ البخاري (1/384) برقم (1094) ومسلم برقم (758) ]
قال العلامة ابن القيم في النونية :
      وكذا نزول الرب جلاله ***** في النصف من ليل وذاك الثاني
من ذاك يسألني فيعطي سؤله ***** من ذا يتوب إلي من عصيان
فيقول لست بسائل غيري بأحوال ***** العباد أنا العظيم الشان
من ذاك يسألني فأغفر ذنبه ***** فأنا الودود الواسع الغفران
من ذا يريد شفاءه من سقمه ***** فأنا ا لقريب مجيب من ناداني
ذا شأنه سبحانه وبحمده ***** حتى يكون الفجر فجرا ثاني
فالخلوة به سبحانه وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقالب والقلب بين يديْه سبحانه، ثم ختم ذلك بالإستغفار والتوبة من أبلغ الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى.
التاسع:  مجالسة المحبين والصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم وألا يتكلم إلاّ إذا ترجّحت مصلحة الكلام وعُلِم أنّ فيه مزيداً لحالِهِ :
ومجالسة المحبين الصادقين والتعرف على أحوالهم والاقتداء بهم يزيد العبد محبة لله عزوجل وشوقاً إليه وإلى جنته ومحبة الله لعبده بسبب هذه المجالسة للصادقين قال الله تعالى : " وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ  وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا " [ الكهف : 28]
وفيما أخرجه البخاري ومسلم ـ رحمهما الله تعالى ـ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :" إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر ، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا : هلموا إلى حاجتكم . قال : فيُحفّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا ، قال : فيسألهم ربُّهم ـ وهو أعلم منهم ـ ما يقول عبادي ؟ قال : تقول : يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك ، قال : فيقول : هل رأوني ؟ قال : فيقولون : لا والله ما رأوك ، قال : فيقول : وكيف لو رأوني ؟ قال : يقولون : لو رأوك كانوا أشد لك عبادة ، وأشد لك تمجيدًا وأكثر لك تسبيحًا ، قال : يقول : فما يسألونني ؟ قال : يسألونك الجنة ، قال : يقول : وهل رأوها ؟ قال : يقولون : لا والله يا رب ما رأوها ، قال : يقول : فكيف لو أنهم رأوها ؟ قال : يقولون : لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا ، وأشد لها طلبًا ، وأعظم فيها رغبة ، قال : فممَّ يتعوذون ؟ قال : يقولون : من النار ، قال : يقول : وهل رأوها ؟ قال : يقولون : لا والله يا رب ما رأوها ، قال : يقول : فكيف لو رأوها ؟ قال : يقولون : لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا ، وأشد لها مخافة ، قال : فيقول : فأشهدكم أني قد غفرت لهم . قال : يقول ملك من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم ، إنما جاء لحاجة . قال : هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم "
وفي رواية مسلم :" قال : فيقولون : ربّ فيهم فلان عبد خطَّاء، إنما مرَّ فجلس معهم قال: فيقول: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"  [ البخاري برقم (6408) كتاب الدعوات باب: فضل ذكر الله (11/208ـ 209) ومسلم برقم (2689) في كتاب الذكر والدعاء باب: فضل مجالس الذكر ( 4/ 2069 ـ 2070)]
والشاهد :" قال: فيقول: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم "
فجلوس هذا الرجل مع الذاكرين المحبين كان سبباً في مغفرة ذنبه والمغفرة تستلزم محبة الله عزوجل له فاحرص أخي على مجالسة الصالحين الصادقين تصل إلى محبة الله ربِّ العالمين . 
العاشر: مباعدة كلِّ سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجلّ :
ومن أسباب زيادة محبة الله تعالى في قلب العبد ومحبة الله تعالى لعبده : بعد العبد عن كل ما يحول بينه وبين الله عزوجل وأعظمها الذنوب والآثام فإنها تضعف محبّة الله في قلب العبد . قال الله تعالى :" كلا بل رانَ على قُلُوبهم ما كانوا يكسبون"  [ المطففين :14]
ولله در القائل :
تَعْصِي الإِله وَأنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ       هذا محالٌ في القياس بديعُ
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ          إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
ولله درُّ ابن المعتز في قوله :
     خلِّ الذنوب صغيرها      وكبيرها فَهَو التُّقي
     كُن كماشٍ فوق أرضِ     الشوك يحذرُ ما يرى
     لا تَحقِرَنَّ صغيرةً         إن الجبال من الحصى
وكذلك البعد عن مخالطة من لا خير فيه من الناس وعدم الإكثار من المباحات وفضول الطعام والشراب والنظر والكلام وغيرها مما يحول بين القلب وبين الله عزوجل فهذا من أبلغ الأسباب الجالبة لمحبة الله عزوجل .
مسألة :
علامة المُحِبّ على صدق محبته :
قال إبراهيم بن الجنيد ـ رحمه الله تعالى ـ: يقال علامة المُحِبِّ على صدق محبته ست خصال :
أحدها : دوام الذكر بقلبه بالسرور بمولاه .
والثانية : إيثار محبَّة سيِّده على محبة نفسه ومحبة الخلائق .
والثالثة : الأنس به والاستثقال لكل قاطع يقطع عنه أو شاغل يشغله عنه .
والرابعة : الشوقُ إلى لقائه والنظر إلى وجهه .
والخامسة : الرضا في كلِّ شدَّةٍ وضُر ينزل به .
والسادسة : إتِّباع رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
[ كتاب :" استنشاق نسيم الأنس " لابن رجب ص: 84 ]
ونختم الرسالة بهذا الكلام القيِّم للعلامة ابن القيِّم ـ رحمه الله تعالى ـ : " لا شيء أطيب للعبد ولا ألذ ولا أهنأ ولا أنعم لقلبه وعيشه من محبة فاطره وباريه ودوام ذكره والسعي في مرضاته وهذا هو الكمال الذي لا كمال للعبد بدونهوله خُلِقَ الخلق ولأجله نزل الوحيُّ وأرسلت الرُسل وقامت السموات والارض ووجدت الجنة والنار ولأجله شرعت الشرائع ووضع البيت الحراموعلى هذا الأمر العظيم أسست المِلَّة ونصبت القِبْلة وهو قطب رحى الخلق والأمر الذي مدارهما عليه ولا سبيل إلى الدخول إلى ذلك إلا من باب العلم؛ فإنَّ محبة الشيء فرع عن الشعور به وأعرَفُ الخلق بالله أشدهم حبا له فكل من عرف الله أحبَّه "  [ مفتاح السعادة (1/254) ط دار ابن حزم ]
فاللهم اجعلنا من المحبين الصادقين واغفرلنا ذنوبنا واسترعيوبنا ولا تفضحنا بين خلقك ولا بين يديْك وارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم وصحبة نبيك الأمين وصحبه الغر الميامين وآل بيته الأطهار الطيبين واغفر لوالديْنا ومشايخنا وأزواجنا وأولادنا ومن له حقٌ علينا واجعل أعمالنا كلها صالحة واجعلها لوجهك خالصة ولا تجعل لأحد فيها شيئاً إنك نعم المولى
ونعم النصير وآخر دعوانا أن الحمدلله ربِّ العالمين .
                                                     
          كتبه:
                                          أبو أحمد : سيد عبد العاطي بن محمد الذهبي 
                                   غفر الله له ولوالديْه ولزوجه وولده وللمسلمين والمسلمات