فوائد إيمانية من هجرة خير البريّة (1)

 

فوائد إيمانية من هجرة خير البريّة (1)


الحمد لله سلَّم ميزان العدل إلى أكفِّ ذوي الألباب، وأرسل الرسلَ مبشرين ومنذرين بالثواب والعقاب، وأنزل عليهم الكُتُبَ مُبيّنة للخطأ والصواب، وجعل الشرائع كاملة لا نقص فيها ولا عاب.

أحمده حمد مَنْ يعلم أنَّه مُسبِبُ الأسباب، وأشهد بوحدانيته شهادة مُخلِصٍ في نيته غير مُرتاب، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، أرسله وقد أسدل الكفر على وجه الإيمان الحجاب، فنسخ الظلام بنور الهُدى وكشف النقاب، وبيَّن للناس ما أُنزل إليهم و أوضح مشكلات الكتاب وتركهم على المحجة البيضاء لا سرب فيها ولا سراب فصلى الله عليه وعلى جميع الآل وكل الأصحاب وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الحشر والحساب وسلّم تسليماً كثيراً.

 

أمّا بعد فاعلم أخي ـ رحمني الله وإيّاك ـ أن هجرة النبي الأمين من مكة إلى المدينة كانت الطريق إلى النصر والعِز والتمكين وتحقيق الفتح المُبين وهي الحركة التي أسست لدولة العقيدة و جعلها الله سببا لإقامة العدل و الحقّ و بناء الجيل الفريد جيل الصاحبة الكرام – رضوان الله عليهم أجمعين – وهذا الحدث العظيم غني بالفوائد الإيمانية التي تمُس الحاجة إليها في ظل هذا الوقع المرير الذي تعيشة الأمة المسلمة لتستلهم منها الأمة المسلمة الدروس و العبر و العظات و تستجلي الحقيقة و تتملي من أنوارها لقوله تعالي : " وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين " {الذاريات : 55}

فهيا بنا نقف أمام بعض الفوائد الإيمانية من هجرة خير البرية - صلي الله عليه وسلم:

الفائدة الأولي: الفرج بعد الشدة و اليُسر بعد العُسر:

اعلم أخي ـ رحمك الله ـ أنّ الله تعالى يستخرج جميع أنواع العبودية من قلوب عباده فيبتليهم بالسَّراء ليستخرج عبادة الشكر ويبتليهم بالضرَّاء ليستخرج عبادة الصبر وقد شاء الله تعالى أن يتعرض المسلمون في مكة في بداية الدعوة للإيذاء والتنكيل وشتى أنواع التعذيب فأراد اللهُ أن يُرِيَ الناس من عجائب تحمُّل النفس الإنسانية ما تمثَّل في الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه الكرام في أحسن بلاء ليكون هذا للناس أسوة فيما يفعلون أو يتركون وكان هذا للتمحيص وبيان أن النصر يحتاج إلى ثبات وبذل وتضحية وأنه بعد الضيق والشدة يأتي الفرج وبعد العسر يأتي اليسر.

قال تعالى : " فإنَّ مع العسر يسراً. إنَّ مع العسر يسراً " {سورة الشرح :5،6}.

وإليك أخي بعض صور الإبتلاء التي تعرَّض لها الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبه الغُرِّ الميامين ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ :

1)  فعن عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : " بينما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائم يصلي عند الكعبة وجَمْعُ قريش في مجالسهم ـ إذ قال قائل منهم : ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيُّكم يقوم إلى جزور* آل فلان فَيعْمِد إلى فرْثِها ودمها وسلاها فيجئ به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بينَ كتفيْه؟ فانبعث أشقاهم فلمّا سجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضعه بين كتفيْه وثبت النبيُّ ساجداً فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضَّحك فانطلق منطلق إلى فاطمة ـ عليها السلام ـ وهي جويرية فأقبلت تسعى وثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ساجداَ حتى ألقته عنه وأقبلت عليهم تسبُّهم فلما قضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصلاة قال :" اللهم عليك بقريش، اللهُمَّ عليك بقريش، اللهُمَّ عليك بقريش" ثمَّ سمَّى " اللهُمَّ عليك بعمرو بن هشام وعُتبة بن ربيعة وشيْبَة بن ربيعة والوليد بن عُتبة وأميَّة بن خلف وعُقبة بن مُعيط وعُمارة بن الوليد" قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" وأتْبِعَ أصحَابُ القليب لعنة "

[صحيح البخاري كتاب الوضوء باب: إذا ألُقي على المصلي قذراً أو جيفة (1/37) 240، 250 * والجزور: أي البعير أو الناقة ]


 

2)  وروت كتب السيرة أن عُتيبة بن أبي لهب أتى يوماً رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : أن أكفر ب" والنجم إذا هوى "{النجم: 1} وبالذي :" دنا فتدلى" {النجم:8 } ثمَّ تسلط عليه بالأذى وشقّ قميصه وتفل في وجهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلاَّ أنَّ البزاق لم يقع عليه وحينئذٍ دعا عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال :" اللهم سلِّط عليه كلباَ من كلابك " وقد استُجيب دعاؤه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد خرج عُتيبة إثر ذلك في نفر من قريش فلما نزلوا بالزرقاء من الشام طاف بهم الأسد تلك الليلة فجعل عُتيبة يقول : يا ويل أخي هو والله آكلي كما دعا محمد عليَّ ، قتلني وهو بمكة وأنا بالشام ثم جعلوه بينهم وناموا من حوله ولكن جاء الأسد وتخطاهم إليه فضغم رأسه " [دلائل النبوة (2/585) ومختصر السيرة للشيخ عبدالله النجدي ص: 135]


 

3) وعند الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشدّ شئ صنعه المشركون بالنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: بينما النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي مُعَيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبوبكر حتى أخذ بمنكبيْه ودفعه عن النبيِّ ـ صلي الله عليه وسلم ـ وقال ـ أتقتلون رجلاً أن يقول ربيَ الله " [البخاري باب : ذكر ما لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المشركين بمكة (1/544)]


 

4) وتأمل رحلته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الطائف سيراً على قدميه جيئةً وذهوباً ومعه مولاه زيد بن حارثة وكان كلما مرَّ على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام فلم تجب إليه واحدة منها وفي الطائف أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبُّونه ويصيحون به ورجموا عراقيبه حتى اخضب نعلاه بالدماء وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شِجَاج في رأسه.

وقد روى الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ تفصيل القصة بسنَده عن عروة بن الزبير أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ حدثته أنها قالت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هل أتى عليك يوم كان أشدَّ عليك من يوم أُحد؟ قال:" لقيت من قومك ما لقيت وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كُلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت ـ وأنا مهموم ـ على وجهي فلم استفق إلا وأنا بِقَرْنِ الثعالب ـ وهو المسمى بقرن المنازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظَلتني فنظرت فيها فإذا جبريل فناداني فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ ثم قال: يا محمد ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبيْن ـ أي لفعلت ـ والأخشبان: هما جبلا مكة: أبو قبيْس والذي يقابله وهو قُعيْقِعان ـ قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" بل أرجو أن يخرج الله عزوجل من أصلابهم من يعبد الله عزوجل وحده لا يشرك به شيئاً " [صحيح البخاري كتاب بدء الخلق (3231، 7389) فتح الباري (6/360) ومسلم (2/109)]

فتأمل أخي ـ حفظك الله ـ إذا كان هذا مع رأس المؤمنين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما بالك بالمؤمنين أنفسهم ؟!


 

5) كان أبوجهل عليه لعائن الله إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال والجاه وإذا كان ضعيفاً ضربه وأغرى به. [ سيرة ابن هشام: 1/320]


 

6) وكان عمُّ عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته. [ كتاب : رحمة العالمين ص 1/57]


7) ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب وأخرجته من بيته وكان من أنعم النّاس عيشاً فَتَخَشَّف جلده تخشف الحية. [أسد الغابة 4/406، وتلقيح فهوم أهل الأثر ص: 60 وراجع كتاب: الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري ص:90  ط: دار الوفاء ]


 

8) وكان صُهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدري ما يقول. [الإصابة 3،4/255 وابن سعد في الطبقات 3/248 والرومي: لأنه أُسر وهو صغير في جيوش الرومان وتعلم اللكنة الرومية فلُقب بالرومي ولكنه عربي الأصل ]


 

9) وكان بلال بن رباح مولى أميَّة بن خلف الجمحي ، فكان أميَّة يضع في عنقه حبلاً ثم يسلمه إلى الصبيان يطوفون به جبال مكة ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه وهو يقول: أحدٌ أحد ، وكان أمية يشده شداً ثم يضربه بالعصا ويلجئه إلى الجلوس في حرِّ الشمس كما كان يكرهه على الجوع وأشد من ذلك كلِّه أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيقول وهو في ذلك : أحدٌ أحد ويقول : لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها ومرَّ به أبوبكر يوماً وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود وقيل: بسبع أواق أو خمس من الفضة وأعتقه. [ابن هشام 1/317،318 وتلقيح فهوم أهل الأثر ص:61 وتفسير ابن كثير سورة النحل الآية:106 (2/648) وراجع الرحيق المختوم ص:90ـ91 ط: دار الوفاء ]


 

10) وكان عمَّار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمُّه فكان المشركون ـ وعلى رأسهم أبوجهل ـ يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها ، ومرَّ بهم النبيُّ  ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم يعذبون فقال:" صبراً آل ياسر فإنَّ موعدكم الجنّة " فمات ياسر في العذاب وطعن أبوجهل سُمية ـ أم عمّار ـ في قُبُلها بحربة فماتت وهي أول شهيدة في الإسلام وهي " سُمية بنت خياط " مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم وكانت عجوزاً كبيرة ضعيفة ، وشددوا العذاب على "عمّار" بالحر تارة، وبوضع الصخر الأحمر على صدره تارة أخرى وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه وقالوا له: لا نتركك حتى تسب محمداً أو تقول في اللات والعزى خيراً فوافقهم على ذلك مُكرَهاً و جاء باكياً معتذراً إلى النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنزل الله :" مَنْ كفر بالله بعد إيمانه إلا مَنْ أكرِه وقلبُهُ مطمئنٌ بالإيمان " {سورة النحل:106}

[سيرة ابن هشام1/139،320 وطبقات ابن سعد 3/248ـ249 وروى الجزء الأخير العوفي عن عبدالله بن عباس تفسير ابن كثير ولينظر الدُّر المنثور تفسير الآية 106 سورة النحل]


 

11) وكان أبو فُكَيْهَة ـ واسمه أفلح ـ مولى لبني عبد الدَّار وكان من الأزد فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حرٍّ شديد وفي رجليْه قيد من حديد فيجردونه من الثياب ويبطحونه في الرمضاء ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لا يتحرك فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وكانوا مرة قد ربطوا رجله بحبل ثم جروه وألقوه في الرمضاء وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات فمرَّ به أبوبكر فاشتراه واعتقه لله. [أسد الغابة 5/248 والإصابة 7،8/182]


 

12) وكان خباب بن الأرت مولى أغار بنت سِباع الخزاعية وكان حداداً فلمّا أسلم عذبته مولاته بالنار كانت تأتي بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهرة أو رأسه ليكفر بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يكن يزيده ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً وكان المشركون أيضاً يعذبونه فيلوون عنقه ويجذبون شعره وقد ألقوه على النّار ثم سحبوه عليها فما أطفأها إلاّ وَدَكَ ظهره. [أسد الغابة 1/591ـ592]


13) وكانت زنيرة أمَةً رومية قد أسلمت فعُذبت في الله وأصيبت في بصرها حتى عميت فقيل لها: أصابتك اللات والعزى ، فقالت: لا والله ما أصابتني وهذا من الله وإن شاء كشفه فأصبحت من الغدّ وقد ردّ الله بصرها فقالت قريش: هذا بعض سحر محمد. [طبقات ابن سعد 8/256 وسيرة ابن هشام 1/318]


 

الحاصل أنه ما من أحدٍ اعتنق الإسلام إلا وتصدى له المشركون بالأذى والنكال وكان هذا بقدر الله تعالى إعلاناً وبياناً صريحاً أن اعتناق هذا الدين مسؤلية عظيمة لن يصلح لحملها إلا الرجال وهذه كلها تمهيد للهجرة المباركة التي كانت فرجاً بعد شدة ويسراً بعد عسرٍ.

 

انتظرونا في الحلقة القادمة ـ إن شا الله ـ مع فائدة إيمانية جديدة من هجرة خير البرية ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

اللهم اغفر ذنوبنا كلها صغيرها وكبيرها سرَّها وعلنها، دقها وجلّها وارفع البأساء عن البائسين، والمجاعة عن الجائعين واجعل بلاد الإسلام أمناً وأماناً وإطمأناً وولِّي أمورنا خيارنا ولا تولي أمورنا شرارنا وسائر بلاد المسلمين وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

 

كتبه راجي عفو ربه الغفور

أبو أحمد سيد عبد العاطي بن محمد الذهبي

غفر الله له ولوالديْه ولزوجه وولده وللمؤمنين والمؤمنات