مع الصائمين فى رمضان 1 ـ سعة فضل الله فى مضاعفة الأعمال

مع الصائمين فى رمضان
(1 ) سعة فضل الله فى مضاعفة الأعمال

 
الحمد لله على ما له من الأسماء الحسنى ، والصفات الكاملة العظيمة العليا، وعلى آثارها الشاملة للأولى والأخرى.   
وأصلي وأسلم على محمد - صلى الله عليه وسلم – أجمع الخلق لكل وصف حميد , وخُلُقٍ رشيد , وقول سديد , وعلى أصحابه وأتباعه من جميع العبيد.
 
أما بعد:
فمرحباً بكم أحبتي في الله على مائدة شهر رمضان وأسأل الله تعالى أن يجعله مغفرةً لذنوبنا وسِتراً لعيوبنا وتفريجاً لكروبنا وعتقاً لرقابنا من النار اللهم آمين.
ومع سلسلة جديدة بعنوان " مع الصائمين فى رمضان " أصحبكم خلالها لبيان فضائل الأعمال وأسباب مضاعفاتها وبيان فضل الصيام وخواصه وثوابه العاجل والآجل وبيان حكمته والمقصود منه وما ينبغي فيه من الآداب الفاضلة.
ومع الحلقة الأولى فى هذه السلسلة المباركة والتي هي بعنوان " سعة فضل الله فى مضاعفة الأعمال " .
·      خرَّج الشيخان البخاري ومسلم - رحمهما الله تعالى فى صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:« كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يضاعفُ: الحسنة بعشرِ أمثالِها إلى سَبْعِمائهِ ضِعفٍ »، قال الله تعالى:« إلا الصومُ ، فإنَّه لى وأنا أجزى به ، يَدَعُ شهوتَهُ وطعامَهُ من أجلى».
للصائم فرحتانِ: فرحةٌ عند فِطره، وفرحةٌ عند لقاء ربِّه، ولَخُلُوفُ فم الصائمِ أطيبُ عند الله من ريح المِسْكِ، والصومُ جُنَّةٌ، وإذا كان يومُ صوْم أحدِكُمْ فلا يرفُث ولايصخَبْ ، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلَهُ ، فليَقُلْ:«إنِّى امْرُؤٌ صائم » { أخرجه البخارى فى صحيحه بالأرقام (1894 ، 1904، 5927 ، 7492 ، 7538 ) ومسلم فى صحيحه برقم "1151"} .
هذا حديث عظيم الفائدة، جامع للخيرات، فقد بين هذا الأصل الجامع، وأنَّ جميع الأعمال الصالحة من أقوال وأفعال، ظاهرة أو باطنة، سواء تعلقت بحقِّ الله، أو بحقوق العباد مضاعفة من عشر إلى سَبْعِمائهَ ضعف إلى أضعاف كثيرة.
وهذا من أعظم ما يدل على سعة فضل الله، وإحسانه على عباده المؤمنين إذ جعل جناياتهم ومخالفاتهم: الواحدة بجزاء واحد ومغفرة الله تعالى فوق ذلك.
·      كما جاء عند الشيخين من حديث أبي العباس عبدالله بن عباس- رضي الله عنهما عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربِّه تبارك وتعالى قال-:« إنَّ الله كتب الحسناتِ والسيئاتِ ثمَّ بيَّنَ ذلك : فمَنْ هَمَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها اللهُ عندَهُ عشْرَ حسنات إلى سَبْعِمَائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإنْ هَمَّ بسيِّئةٍ فلم يعملها كتبها اللهُ عنده حسنة كاملة وإنْ هَمَّ بها فعمِلَهَا كتبها اللهُ سيئةً واحدة » {أخرجه البخارى فى الرقاق (6491) ومسلم فى الإيمان (131) وأحمد (1/ 310 ، 360، 361) والتبريزى فى المشكاة (2374) والمتقى فى الكنز (10240) والمنزرى فى الترغيب (1/ 56) }
فانظر أخى- وفقني الله وإياك لما فيه الخير - إلى عظيم فضل الله تعالى وإحسانه إلى خلقه بأنْ جعل هَمَ العبد بالحسنة وإن لم يعملها حسنة وجعل هَمه بالسيئة ولم يعملها
حسنة وإن عملها سيئة واحدة فإنْ عمل الحسنة كتبها اللهُ عشراً وهذا فضل عظيم بأن ضاعف لهم الحسنات ولم يضاعف عليهم السيئات.
وإنما جعل لهم بالحسنة حسنة لأن إرادة الخير هو فعل القلب لعقد القلب على ذلك، فإن قيل فكان يلزم على هذا القول أن يكتب لمن همَّ بالسيئة ولم يعملها سيئة لأن الهمّ بالشيء عمل من أعمال القلب أيضاً، قيل ليس كما توهمت
فإنَّ من كفَّ عن الشر فقد فسخ اعتقاده للسيئة باعتقاد آخر نوى به الخير وعصى هواه المريد للشر فجوزى على ذلك
بحسنة وهذا إن كان الإمساك عن الشر من أجل الله تعالى،
أما إذا ترك السيئة مكرهاً على تركها أو عاجزاً عنها فلا تكتب له حسنة ولا يدخل فى معنى هذا الحديث.
والسؤال الذى يطرح نفسه الأن : هل هناك أسباب لمضاعفة الحسنات ؟
الجواب : نعم .. الحسنة تضاعف إلى أضعاف كثيرة، أقلّ هذا التضعيف أنَّ الواحدة بعشر وقد تزيد على ذلك بأسباب منها :
·      أولاً: قوة إيمان العامل، وكمال إخلاصه، فكلما قوي الإيمان والإخلاص تضاعف ثواب العمل.
الدليل: قوله تعالى:« مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبَّة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبَّة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم (261) الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله ثم لا يُتبعون ما أنفقوا مَنَّاً ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون » ( البقرة: 261_262)
وقوله تبارك وتعالى:« ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاتِ اللهِ وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جَنَّةٍم بربوةٍ أصابها وابلٌ فآتتْ أُكُلَها ضعفيْن فإنْ لم يصبها وابلٌ فطلٌّ والله بما تعملون بصير » (البقرة : 265)
وقوله تبارك وتعالى:« ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مُراغماً كثيراً وسعة ومن يخرُجْ من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموتُ فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً » (النساء: 155)
·      ثانياً: أن يكون للعمل موقع كبير، كالنفقة فى الجهاد، والعلم، والمشاريع الدينية العامة وكالعمل الذى قوى بحسنه وقوته ودفعه المعارضات كما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة أصحاب الغار:روى البخاري ومسلم – رحمهما الله تعالى فى صحيحيهما عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال:« بينما ثلاثة نفر يتمشَّوْن أخذَهُمُ المطرُ ، فأوَوْا إلى غارٍ فى جبلٍ فانحطَّتْ على فم غارِهِمْ صخرةٌ من الجبل، فانطبقت عليهم . فقال بعضهم لبعضٍ : انظروا أعمالاً عمِلتُمُوها صالحةً لله، فادعوا الله تعالى بها، لعلَّ اللهَ يفرُجُهَا عنكم. فقال أحَدُهُمُ: اللهمَّ إنَّه كان لى وَالِدَان شيخان كبيران، وامرَأَتي ولي صبيةٌ صغارٌ أرعى عليهم، فإذا أرَحْتُ عليهم حلَبْتُ، فبدأتُ بوالدَىَّ فسقَيْتُهُما قَبْلَ بَنِيَّ، وأنه نأى بي ذات يوم الشَّجَرُ فلم آتِ حتى أمسَيْتُ فوجدْتُهُما قد ناما، فحَلَبْتُ كما كنت أحْلُبُ، فجِئْتُ بالحِلابِ فقمتُ عند رُؤسِهِمَا أكْرَهُ أنْ أوقِظَهُمَا من نومِهِمَا، وأكْرَهُ أنْ أسْقِىَ الصبيةَ قبلهُمَا، والصبية يتضاغَوْنَ عند قَدمَىَّ فلم يَزَلْ ذلك دَأْبى ودأْبَهُم حتى طَلَعَ الفجرُ، فإنْ كنتَ تعلمُ أنِّى فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِكِ فافرُجْ لنا منها فرْجةً نَرَى منها السماء، ففرَجَ اللهُ منها فرْجَةً فرأوْا منها السماء. وقال الآخرُ: اللهُمَّ إنَّه كانت لِىَ ابْنَة عَمٍّ، أحبَبْتُهَا كَأَشَدِّ ما يحبُّ الرجالُ النِّساءَ، وطلبتُ إليها نفسَهَا فأبَتْ حتى آتِيَهَا بمِائَةِ دينار، فتعِبِتُ حتى جمعتُ مِائَةَ دينار، فجئْتُها بها، فلمَّا وقَعْتُ بين رجْلَيْها قالت: يا عبد الله اتقِ اللهَ ولا تفتَح الخَاتَمَ إلا بحقهِ، فقُمْتُ عنها، فإن كنتَ تعلمُ أنِّي فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِكِ فافرُجْ لنا منها فرْجةً ففرَجَ لهم. وقال الآَخَرُ: اللهُمَّ إنِّى كُنْتُ استأجَرْتُ أجيراً بفَرَق أَرُزِّ فلما قَضى عملَهُ قال أعطِنى حَقِّي، فعرضتُ عَليه فَرَقَهُ، فَرَغِبَ عنه، فلم أزل أزرَعُهُ حتى جمعتُ منه بقراً ورِعَاءَهَا فجاءَنِي فقال: اتَّقِ اللهَ ولا تظْلِمْنِى حَقى قُلتُ: اذهبْ إلى تلك البقرِ ورعَائِها فَخُذْهَا، فقال: اتَّقِ اللهَ ولا تَسْتَهْزِئ بي فقلت: إنّي لا استهْزئُ بك، خُذْ ذلك البقر ورِعَاءَهَا، فَأخذَهُ فذهب به، فإن كنتَ تعلمُ أنِّي فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِكِ فافرُجْ لنا ما بَقِىَ ففرَجَ اللهُ ما بَقِي »
 " وهذا السياق لمسلم" .(" البخارى 4/408 ورقمه "2215" ومسلم 4/2099 ورقمه " 2743 ")
وقصة الرجل الذي سقى كلباً فغفر الله له:
·      روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم قال:« بَيْنَا رجلٌ يمشي، فاشتدَّ عليه العطشُ، فنزَلَ بئراً فشَرِبَ منها، ثمَّ خَرجَ فإذا هُوَ بكلبٍ يلهث، يأكُلُ الثرى من العطش، فقال: لقد بلغَ هذا مثلُ الذى بَلَغَ بي، فمَلأَ خُفَّهُ ثم أمسكَهُ بِفِيهِ ثمَّ رَقِي، فسقى الكلْبَ، فشكَرَ اللهُ له فَغَفَرَ له قالوا: يا رسولَ اللهِ، وإنَّ لنا فى البهائِمِ أجْراً ؟ قال: في كلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجرٌ »
(البخارى فى كتاب المساقاة ، باب فضل من سقى الماء، 5/40 ورقمه " 3363 ").
 
       - وقصة البَغِي التي سقت الكلب فشكر الله لها فغفر لها:  روى مسلم فى صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :« أنَّ امرأةً بغيّاً رأتْ كلباً في يوم حَارٍّ يُطِيفُ ببئر، قد أدْ لَعَ لسانَهُ من العطش، فنزعَتْ له بمُوقِهَا، فَغُفِرَ لها ». (رواه مسلم فى كتاب السلام ، باب فضل سقي البهائم 4/1761 ورقمه : 2244 ، 2445 . ورواهالبخاري في كتاب بدء الخلق باب إذا وقع الذباب في إناء أحدكم 6/359 ورقمه : 3321 . ومعنى : نزعت له بموقها : الموق: الخف ، فارسي معرب أي أخرجت له الماء من البئر بخفها).
وهناك المضاعفة لفضل الزمان أو المكان والمضاعفة لدفع الضرورات العظيمة أو لفضل العامل عند الله تعالى فهذه المضاعفات كلها شاملة لكل عمل.
واستثنى اللهُ فى هذا الحديث الصيام وأضافه إليه وأنه الذي يجزي به بمحض فضله وكرمه فلماذا ؟
للإجابة عن هذا السؤال انتظرونا - إن شاء الله - فى الحلقة القادمة من هذه السلسلة.
اللهم اجعل اعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة ولا تجعل لأحدٍ فيها شيئاً وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 
                                   كتبه
    أبو أحمد سيد عبد العاطى بن محمد الذهبى
           غفر الله له ولوالديه ولزوجه وأولاده
                     وللمسلمين والمسلمات