فتاوى أَمْ ماذا؟
الحمدلله جل وعلا، ذي الأسماء الحسنى والصفات العُلا، وأصلي وأسلم على نبيِّ الهُدى، وعلى آله وأصحابه ومَنْ اهتدى ثم أمَّا بعد:
فاعلم أخي ـ رحمك الله ـ أننا نعيش زمن غربة الإسلام الذي أخبر عنه النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:" بدأ الإسلام غريباً، وسيعود ـ كما بدأ ـ غريباً فطُوبى للغرباء" [ رواه مسلم في: 1ـ كتاب الإيمان 6ـ باب بيان أنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعودغريباً رقم (45)، (130/1) ورواه ابن ماجه في سننه برقم[ (3986) (2/1319 : 1320)]
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " بدأ" يعني ظهر الإسلام (غريباً) في أول أمره في مكة غريب بين الكفرة لم يأخذ به إلا القليل من الناس ثم انتشر شيئاً فشيئاً في مكة ولم يزل غريباً ثم هاجر النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة وانتشر في المدينة وظهر في المدينة ثم ظهر في جميع الدنيا والحمدلله، (وسيعود ـ كما بدأـ غريباً) يعني في آخر الزمان بسبب قلة أهله الذين يعتنقونه ويتمسكون به حتى في آخر الزمان يُقبض الدين كله ولا يبقى إلا الأشرار فعليهم تقوم الساعة معنى (يعود غريباً) يعني: يقل أهله ويكثر خصومه وأعداؤه وفي آخر الزمان بعد طلوع الشمس من مغربها يرسل الله ريحاً طيبة تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات ولا يبقى إلا الأشرار فعليهم تقوم الساعة، قد ينتشر في بعض البلاد ويكثر ويقوى ويضعف في بلاد أخرى، لكن في الجملة هو يعود غريباً، لكن بالنسبة إلى بعض البلاد قد يكون ليس فيها بغريب لكثرة الدعاة فيها إلى الله والعلماء والأخيارهذا وقد بشَّر النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ العاملين بالإسلام والمتمسكين به في وقت غربته بـ" طوبى" فقال " فطوبى للغرباء" وطوبى من الطيب ولها تفسيرات عِدَّة منها: النعيم والسعادة والجنة ومنها أنها شجرة طيبة من أشجارالجنة فيا لها من بشارة لأهل الإسلام المتمسكين به ـ فنحن في هذا الزمان نعيش هذه الغربة ومن أشدّ أنواعها غربة المفاهيم والأفكارفالكثيرون ممن ينتسبون للإسلام يحملون أفكاراَ غير أفكاره ومفاهيماُ غيرمفاهيمه وقناعات ليست منه فهم قد فصلوا أنفسهم عنه وبعدوا وأصبح المستمسكون به حقاً غرباءً لقلتهم، فسادت الأفكار الدخيلة الباطلة الكفرية على الكثيرين للأسف فحاربوا الإسلام باسم الإسلام فهؤلاء كما وصفهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث حذيفة:" دعاة على أبواب جهنم " ولفظ الحديث في الصحيحين: عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال:" كان الناس يسألون رسول الله ـ صل الله عيه وسلم ـ عن الخير وكنت أسأله عن الشرِّ مخافة أن يدركني فقلتُ: يا رسول الله: إنَّا كُنَّا في جاهلية وشرّ فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شرّ؟ قال: نعم، فقلت: وهل بعد ذلك الشر من خيرٍ؟ قال: نعم وفيه دخن . قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتُنكر قلت: فهل بعد هذا الخيرمن شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم مَنْ أجابهم إليها قذفوه فيها قلت: يا رسول الله صفهم لنا. فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلِّها ولو أن تعض بأصل شجرةٍ حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"
] البخاري: كتاب الفتن باب: كيف الأمر إذا لم تكن جماعة برقم (6673) ومسلم في صحيحه برقم (3434)]
فنتيجة لعوامل التغريب التي عصفت ولا تزال تعصف بالأمة اليوم، أن استهان كثيرٌمن الناس بالحلال والحرام وأخذوا أحكام دينهم عن الجهلة والمُخرِّفين وتصدَّ للإفتاء جماعة من الحمقى والمغفلين ـ لو كانوا في زمان ابن الجوزي لأدرج أسماءهم وأخبارهم في كتابه الموسوم بأخبار الحمقى والمغفلين ـ في جرأةٍ بآلغة ، وحماقة مكشوفة ، ودون خوفٍ أو خشيةٍ من العليم الخبير، وتفشَّ أولئك المتقولين على الله بلا علم وهم في غمرة نشوتهم وقمة غرورهم وجهلهم تناسوا ذلك الوعيد الشديد الذي يُزلزل القلوب الحيَّة ويتهددُ المتجرئين على الفُتيا فيقول الحقُّ تبارك وتعالى:" ولا تقولوا لِمَا تصفُ ألسنتُكم الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على اللهِ الكذبَ إنّ الذين يفترون على الله الكذب لايُفلحون. متاعٌ قليل ولهم عذابٌ أليم " [النحل: 116ـ117 ]
ويقول سبحانه :" قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماَ وحلالاً قل ءآلله أذنَ لكم أم على الله تفترون . وما ظنُّ الذين يفترون على اللهِ الكذبَ يوم القيامة إنّ الله لذو فضل على الناس ولكنَّ أكثرهم لا يشكرون " [يونس: 59ـ60 [
بل إنَّ الله عزوجل، ليقرن بين أعظم الذنوب وأقبحها، وهو الشركُ به سبحانه وبين القول عليه بغيرعلم فيقول:" قل إنما حرَّم ربيَ الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثمَ والبغيَ بغير الحقِّ وأن تشركوا بالله ما لم ينزِّل به سلطاناَ وأنْ تقولوا على الله ما لا تعلمون " [ الأعراف:33 ]
كلُّ هذه الآيات الكريمات، ضربوا بها عرضَ الحائط واستخفوا بأمرالله فهم في غيهم يترددون .
وإليكم مثال من فتاوى آخر الزمان لمظهر من مظاهر العبث يفتي بوجوب تطليق الزوجة التي تنتمي لحزب سياسي يخالف فكر هذا المفتي العجيب . هذا المفتي الذي يعتلي منبراً لمسجد من المساجد العريقة بمصر وللأسف ينسب للمؤسسة الأزهرية بمصر. ما هذا العبث في الفتوى ؟!
هل أصبحت الفتوى مرتعاً لكلِّ أحد!! هذا المفتي الذي سخرمنه أرباب الفن ومازالوا عندما استضافوه في برنامج على شاكلة الكاميرا الخفية في مستشفى من المستشفيات على أنه في زيارة لمريض نفسي في حلقة ساخرة تقلل من شأن هذا الذي ينسب للعلم ويضحكون ويسخرون منه.
والله لو كان من أهل العِلم حقاً لما تجرأ عليه الفُسّاق ولكنه لما أهان العلم أُهين وأصبح لعبة تحركها الشهوات والأهواء فإنَّا لله وإنّا إليه راجعون .
وفي مقابل هذه الجرأة من هؤلاء المدّعين يقف على النقيض من ذلك العلماء الراسخين فيُحجمون عن الفُتيا مع تأهلهم لها وقدرتهم عليها ويمتنعون عن إبداءِ آرائهم الشرعية في قضايا الأمَّة المصيرية ويوقعون الناس في حيرةٍ من أمرهم ويُخيِّبون آمال الأمة في أحرج المواقف، وأشدَّها حاجة إلى سماع كلمة الحقِّ والأمة محتاجة إلى سماع أقوال علمائها وآرائهم عند اشتداد الخَطْب، وظهورالفتن حتى لاتزلَّ بهم الأقدام أو تهوى بهم الريح في مكان سحيق ، قال تعالى:" وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبدوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون " [ آل عمران: 187 ]
ولذا كان راوية الإسلام الأعظم أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ يقول: لولا هذه الآية ما حدثتكم بحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
فحرام على العلماء أن يكتموا العلم الصحيح ويبينوا الحقَّ الصحيح ويَدَعُوا الأمة تتخبط ذات اليمين وذات الشمال دون أن يأخذوا بيدها إلى برِّ الأمان لا يخافون في الله لومة لائم .
هذا إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ـ رضي الله عنه ـ يقول رأيَّه بكل شجاعة ورجولة لا يمتنع من الفُتا بما يعتقده من صواب في قضية خلق القرآن، ولا يرضى لنفسه أن يُضللِ الجماهير المتلهفة لسماع كلمة الفصل، أو أن يكتم علماً الأمة بأمس الحاجة إليه، يقول كلمة الحقَّ غير هيّاب ولا وجل، وإن غضب المأمون أميرُالمؤمنين، وهدَّده بالصلب والقتل فقال كلمة الحقِّ: القرآن كلام الله صفة من صفاته ليس بمخلوق وتعرض للجلد من أجل ذلك فصبر فرفع الله له علماَ إلى يوم القيامة ـ رضي الله عنه ـ
ومن أخطر أنواع الفُتيا تلك التي يترتب عليها شق الصفوف وتمزيق الروابط والقضاء على الوحدة المجتمعية وسوق الأمة إلى مزالق خطرة .
أخوة الإيمان لقد كان سلفنا الصالح يُقدِّرون خطورة القول على الله بلا علم ويَوَدُّ الواحد منهم أن يكفيه شأن الفُتيا غيره فإذا رأي أنها قد تعينت عليه بذل وُسعه وطاقته في معرفة حكمها ثم أفتى بكل حَيْطة وحَذَر.
يقول ابن أبي ليلى ـ رحمه الله ـ أدركتُ عشرين ومائة من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما كان منهم مُفتٍ إلا ودَّ أنّ أخاه قد كفاه الفُتيا .
وقال أبو داود في مسائله: ما أُحصي ما سمعت من أحمد بن حنبل سُئل عن كثيرما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري .
كثيراً ما كان يقول للسائل: سل عن ذلك غيري كما يقول ولده عبد الله بن أحمد .
وسأل رجل الإمام مالكاً ـ رحمه الله ـ في مسألة: فقال: لا أدري فقال يا أبا عبدالله تقول: لا أدري! قال: نعم فأبلغ من وراءاك أني لا أدري .
فأقول لمن يتجرأون على الفُتيا بغيرعلم أو سعياً وراء الجاه والمال والمنزلة عند الغير اعلموا أنَّ الله على كل شئ قدير وأنّ الله قد أحاط بكل شئ علماً وإنّ من تمام قدرته جل وعلا أنَّه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش خلق هذه المخلوقات العظيمة الواسعة المحكمة المتقنة خلقها في ستة أيام سواءً للسائلين ومع ذلك فإنّه قادر على أن يخلقها بلحظة لأنّ أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ولقد أخبرنا الله عزوجل عن عظيم قدرته في بعث الخلق حيث قال سبحانه:" فإنما هي زجرةٌ واحدة . فإذا هم بالساهرة " [ النازعات: 13ـ14 ] وقال سبحانه:" إن كانت إلا صيحة واحدةً فإذا هم جميعٌ لدينا محضرون " [ يس :53]
هكذا يقول الله عزوجل زجرة واحدة يزجرالله بها الخلائق فيقومون من قبورهم لربِّ العالمين على ظهرالأرض بعد أن كانوا جثثاً في أجواف الأرض وما ذلك على الله بعزيز إنْ كانت إلّا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون يحضرون إلى الله عزوجل للقضاء بينهم والفضل بين عبادة وإذا علمنا ذلك وأنّ الله قد أحاط بكل شئ علماً وأنّه على كل شئٍ قدير فإنه يتبين لنا أنّه يعلم ما في قلوبنا ويعلم ما في نفوسنا قال سبحانه :" ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوسُ به نفسه ونحن أقربُ إليه من حبل الوريد. إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب عتيد " [ ق : 16 ـ 18[
إنَّك أيها الإنسان لا تلفظ كلمة من الكلمات إلّا وعندك رقيب حاضر لا ينفك عنك وسوف يكتب ما تقول حتى تُواجَهْ به يوم القيامة كما قال الله عزوجل:" وكُلَّ إنسانٍ ألزمناه طائره في عنقه ونُخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً " [ الإسراء : 13 ـ 14]
ما أكثر الكلام الذي نتكلم به دون مراقبة أو حذر، ولقد قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ: (أفلا أدلك على مِلاك ذلك كله؟) قلت: بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه نفسه ثم قال:" كُفَّ عليك هذا " قلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال:" ثكلتك أمُّك يا معاذ وهل يكُبُّ الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ " [أخرجه أحمد برقم (21008) والترمذي في سننه برقم (2541) وابن ماجه في كتاب الفتن (3963 )]
فيا عباد الله انظروا ماذا تتكلمون به هل تتكلمون بخير فهو لكم أو تتكلمون بشر فهو عليكم أو تتكلمون بلغو فإنه خسارة ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:" من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيرا أوليصمت "
]البخاري كتاب الأدب برقم (5559) ومسلم كتاب الإيمان (67) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه]
وكل مَنْ أفتى اتباعاً للأهواء وسعياً وراء المال أو الشهرة فهو مغبون خاسر ومن أفتى بخلاف الحق لمصلحة أصحاب السلطة والسلطان والجاه فإنهم يتبرءون منه يوم القيامة كما أخبر الله تعالى فقال" :إذ تبرأ الذين اتُّبعُوا من الذين اتَّبَعُوا ورأوْا العذاب وتقطعت بهم الأسباب . وقال الذين اتَّبَعُوا لو أنَّ لنا كرةً فنتبرأ منهم كما تبرؤا مِنَّا كذلك يريهمُ الله أعمالهم حسراتٍ عليهم وما هم بخارجين من النّار. يا أيّها النّاس كلوا مما في الأرضِ حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطواتِ الشيطان إنه لكم عدو مُبين. إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله مالا تعلمون " [ سورة البقرة : 166 ـ 169 ]
اللهم اجعلنا صالحين مصلحين بمنك وكرمك يا ربَّ العالمين ، اللهم احفظ ألسنتنا من سوء القول وجوارحنا من سوء العمل وقلوبنا من سوء النيات ياربَّ العالمين ، اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم ، اللهم هيئ لهم بطانةً صالحة تدلهم على الخير وتحثهم عليه وأبعد عنهم كلَّ بطانة سوء ياربَّ العالمين ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاَ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ، ربنا اهدنا واهدِّ بنا ويسِّر الهدى لنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى ياربَّ العالمين
وآخر دعوانا أن الحمدلله ربِّ العالمين .
كتبه
أبو أحمد سيد عبد العاطي بن محمد الذهبي
غفر الله له ولوالديْه ولزوجه وولده وللمسلمين والمسلمات