و لعلكم تشكرون 1

و لعلكم تشكرون 1
صيام الجوارح في رمضان
 
 
 
الحمد لله جلّ و علا ذي الأسماء الحسنى و الصفات العلى
 
و أصلي و أسلم على نبي الهدى و على آله و أصحابه و من اهتدى
 
ثم أما بعد
 
فيا أحبة لرسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ اعلموا أن شهر الصيام فرصة عظيمة لشكر النّعم فمن مقاصد فرضية الصيام الشكر, قال الله تعالى :« شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه و من كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر و لتكملوا العدة و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون » [ البقرة : 184 ] و من الشكر استخدام النّعم في طاعة الله عز و جل, و من هذه النّعم نعمة الجوارح فكيف يشكر الإنسان ربه على هذه النعمة العظيمة ؟
 
تعالو ا بنا إخوتاه نتعرف على كيفية شكر نعمة الجوارح و نبدأ بالقلب :
 
1 ـ قلبك في رمضان :
اعلم أخي ـ رعاك الله ـ أن قلبك أمانة عظيمة فالإنسان سيُسأل عما يقر في فؤاده و قلبه أمام الله يوم القيامة, قال الله تعالى :« إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا»
[ الإسراء : 36 ] أي سيُسأل الإنسان عنها و عمّا فعل فيها, و للفؤاد أو القلب مسؤولية خاصة عن بقية الجوارح لأنه كما أخبر النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فقال :« ألا و إن في الجسد مُضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله, و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا هي القلب » [ رواه البخاري 50 و مسلم 2996 ] و للقلب عبادة في رمضان كما لسائر الأركان فإنه مخصوص بأعظم العبادات إنها عبادة الإخلاص, فالإخلاص سيد العبادات و ليس ألصق بالإخلاص في العبادات من الصيام لأنه عبادة بين العبد و ربه و لا يمكن أن يكون الصيام طاعة إلا بالإخلاص و لعل هذا هو السر وراء قول النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فيما يرويه عن ربه عز و جل أنه قال :« كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي و أنا أجزي به » [ أخرجه البخاري 1894, 1904 و مسلم 1151, 163 ]
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ :« إنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات :
ـ أحدهما : أن الصوم يمنع من ملاذ النفس و شهواتها ما لا تمنع منه سائر العبادات.
ـ الثاني : أن الصوم سر بين العبد و ربه لا يظهر إلا له فلذلك صار مختصا به, و ما سواه من العبادات ظاهر ربما فعله تصنعا و رياءً فلهذا صار أخص بالصوم من غيره » [ تقسير القرطبي 1/274 ]
إن الأصل في جميع العبادات أن تقوم على توقير الله تعالى و الإخلاص له و هذا ينبغي أن يستوي في رمضان و في غير رمضان و لكننا في رمضان نستطيع أن نحيي ذلك الإخلاص و التوقير في قلوبنا لأن الصيام عبادة تقوم على مراقبة الله تعالى و الحياء منه في السر قبل العلن و هذا لن يتحقق إلا من خلال معرفة حقيقية لله تعالى بتوحيده حق التوحيد حتى يكون القلب سليما.
يقول العلامة ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسير قول الله تعالى :« مالكم لا ترجون لله وقارا» [ نوح : 13 ]
« لو أنهم عظّموا الله و عرفوا حق عظمته و حدوده, أطاعوه و شكروه, فطاعته ـ سبحانه ـ و اجتناب معاصيه و الحياء منه بحسب و قاره في القلب » [ الفوائد ص : 187 ـ 188 ]
و قد أمرنا الله تعالى بالإخلاص في العبادة و الدعاء فقال ـ تعالى ـ :« فادعوا الله مخلصين له الدين و لو كره الكافرون » [ غافر : 14 ]
و بسلامة القلب تسلم الجوارح و يكون الفلاح يوم القيامة, قال الله تعالى:« يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم » [ الشعراء : 88 ـ89 ]
فشكر نعمة القلب بالإخلاص لله تعالى في الصيام لأن القلب إذا صام و استقام انعكس ذلك على الجوارح لا محالة لأن القلب سيد الأعضاء فإن تحققت استقامته تحققت استقامة الأعضاء جميعا و بهذا يحقق المسلم شكر هذه النعمة العظيمة.
 
2 ـ لسانك في رمضان :
اللسان هذا العضو الصغير نعمة من نعم الله علينا فعن طريقه يكون التعبير و البيان و به يزرع الإنسان الحسنات و السيئات في دار الدنيا و يوم القيامة يحصد ما زرع, إن كان خيرا حصد الكرامة و إن كان شرا حصد الندامة فاللسان على مائدة رمضان له عبادة, بعضها ذكر و بعضها صمت. الصمت المطلوب في الصوم هو الإمساك عن آفات اللسان لأن آفات اللسان و ذنوبه تكبّ الإنسان في النار كما قال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ عندما سأل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فقال :« يا رسول الله أءنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : ثكلتك أمك و هل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ؟ » [ أخرجه أحمد 21008, 21051 و الترمذي 2541 و ابن ماجة 3963 و حتى الألباني ـ رحمه الله ـ 412 ]
و إذا لم يحفظ الإنسان لسانه من تلك الآفات المحرمة في صيامه فربما لا يفيده صومه و لا تتحقق به التقوى المرجوة في الصيام لقول النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ :« من لم يدع قول الزور و العمل به فليس لله حاجة من أن يدع طعامه و شرابه » [ البخاري 1770, 5597 ]
قال الإمام ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ :« كم من صائم عن الطعام مفطر بالكلام , دائب على القيام لكنه مؤذ للأنام , فهو في لسانه وفعله مؤزور وعلى صيامه وقيامه غير مأجور , أين زاغ عن الهدى ودال على سبيل الردى , بل أين من رانت الذنوب على قلبه ولم يبادر التوبة من ذنبه , ولم يخاف عذاب ربه , ويحك يا مسكين إغتنم شهر رمضان المتضمن بالرحمة والغفران وانظر لنفسك يا مسكين قبل أن تصل الى حلقك السكين » [ بستان الواعظين ص : 312 ]
فرمضان فرصة كي يعُوِّد المرء لسانه على العبودية في نطقه بالشهادتين و تلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن و هو ما تتوقف صحة صلاة العبد عليه و تلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر الله بها رسوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ كذلك التسبيح و الذكرو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و تعليم الجاهل و إرشاد الضال و أداء الشهادة المتعينة و صدق الحديث فهذه عبادة اللسان بين النطق و الصمت و لذلك توابع عدة منها الإكثار من تلاوة القرآن و دوام ذكر الله و الدعاء و مذاكرة العلم النافع و عليك أيها الصائم أن تجعل لسانك رطبا بذكر الله و أن تصمت كثيرا فإن الصمت هو سمت الصالحين فهم لا يتكلمون إلا فيما يعنيهم أو فيما تكون فيه الإفادة و الإستفادة.
 
3 ـ سمعك في رمضان :
اعلم أخي ـ رعاك الله ـ أن سمعك نعمة عظيمة و أمانة ستسأل عنها يوم القيامة فسلامة العقل و الفؤاد و الروح مرهونة بما يتسرب إليها من الأذن فإذا سمع الإنسان طيِّبا وصل الطيب إلى عقله و نفسه و روحه و فؤاده, و إذا استمع ـ منصتا ـ إلى الخبيث تسرب الخبيث إلى فؤاده و روحه و تسرب إلى عقله و نفسه. و لذلك كان استماع المحرَّم من محظورات الصيام و إن كان لا يدخل في مبطلاته بالمعنى الفقهي فعندما تصوم الأذن عن سماع الحرام تكون قد حققت شكر النعمة.
ـ قال جابر ـ رضي الله عنه ـ :« إذا صمت فليصم سمعك و بصرك و لسانك عن المحارم » [ وظائف رمضان لابن رجب الحنبلي ص : 21 ]
فأعرض أيها الصائم بسمعك عن الباطل لتحقق معنى الصوم و تحظى بثمرته المرجوة تحظى بتقوى الله فعليك بسماع القرآن و سماع العلم النافع و سماع النصح و البعد كل البعد عن سماع الكفر و البدع إلا حين يكون في استماعه مصلحة راجحة كردِّه أو الشهادة على قائله أو زيادة قوة الإيمان و السنة بمعرفة ضدهما من الكفر و البدعة نحو ذلك و إياك و التجسس بسمعك و التنصت على غيرك و كذلك عليك الهرب بسمعك من سماع المعازف و آلات الطرب و اللهو, فإن فعلت فقد حققت شكر هذه النعمة و حسّنت صومك و عظم أجرك.
 
4 ـ بصرك في رمضان :
اعلم أخي ـ رعاك الله ـ أن بصرك من أعظم النِّعم التي تحتاج إلى مزيد من شكر الله عز و جل و شهر رمضان شهر للصبر و المجاهدة و من الصبر و المجاهدة فيه أن يصبر المرء نفسه على غض البصر و يجاهدها على ذلك فغض البصر يُنوِّر القلب و يُعمِّره بالخشية و يزوده بالتقوى التي هي روح الصيام. و حفظ البصر يعين على حفظ الفرج و حفظهما معا يحفظ الإنسان من الندامة يوم القيامة فإذا أطلق الإنسان بصره للحرام أظلم قلبه و علاه الران و ربما أدى ذلك إلى سواد في البصيرة تؤدي إلى العمى عن رؤية الحق لذلك أمر الله تعالى المؤمنين بغض البصر فقال تعالى :« قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. و قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن َّ و يحفطن فروجهنَّ و لا يبدين زينتهنَّ إلا ما ظهر منها...» [ النور : 30 ـ 31 ]
و قال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ :« مَن يضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه أضمن له الجنة »
 [ البخاري 5992 ].
فلا تكوننّ ـ أخي ـ من صُوَّام البطون و مفطري القلوب في رمضان يصوم بطنك عن الحلال من الشراب و الطعام و تجول في كل منظور حرام.
 
5 ـ يدك و قدمك في رمضان :
اعلم أخي ـ رعاك الله ـ أن من شكر نعمة اليد استخدامها في كل خير من نفقة و جود و كرم و عون محتاج أو مساعدة ضعيف و البعد كل البعد عن البطش و الظلم و السلب و السرقة و النهب و العدوان. و كذلك القدم أن تسعى بها إلى الطاعات و إلى الخيرات فتكثر الخُطا إلى المساجد لمَحو سيئاتك و رفع درجاتك و إلى مجالس العلم و العلماء و السعي في إصلاح ذات البين و تأليف القلوب و البعد كل البعد عن السعي إلى المحرمات و أماكن المعاصي و المنكرات فإن فعلت فقد حققت شكر النعمة و حققت الثمرة المرجوة من الصيام حققت تقوى الله رب العالمين و استمع أخي في الختام إلى قول العلامة ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ :« ينبغي لمن أصبح صائما أن يقول للسانه إنك اليوم صائم عن الكذب و النميمة و قول الزور و الباطل و الغيبة و لعينيه : إنكما صائمتان عن النظر إلى ما لا يحل لكما و للأذنين : إنكما اليوم صائمتان عن الإستماع إلى ما يكره ربكما و لليدين : إنكما اليوم صائمتان عن البطش فيما حرِّم عليكما و الغش في البيع و الشراء و الأخذ و العطاء و للبطن : إنك اليوم صائمة عن المطعم فانظري ماذا تفطري، وتجنبي الخبيث الذي تُدعين إليه، فإن الله طيب لا يقبل إلا الطيب، وللقدمين : إنكما اليوم صائمتان من السعي إلى ما يكتب عليكما وزره، ويبقى قبلكما تباعته وإثمه، ومخاطبة ابن آدم لجوارحه بما تقدم وصفه يجب على العبد استعماله أيام صومه وغيرها ما دام حيا »   [ بستان الواعظين : 313 ].
 
 
فاللهم أعنَّا على الصيام و القيام في رمضان و اجعلنا من المقبولين.
 
 
 
كتبه الفقير إلى عفو ربه
أبو أحمد
سيد عبد العاطي بن محمد
إمام و خطيب الجمعية الإسلامية
إقليم السارلند ساربروكن ألمانيا

تسجيل الدخول

إحصائيات الموقع

10131701
اليوم  :اليوم :766
الأمس  :الأمس :1057
الأسبوع  :الأسبوع :8724
الشهر  :الشهر :40355
الكل  :الكل :10131701

المتواجدون حاليا

79 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع