- التفاصيل
-
كتب بواسطة: admin
-
المجموعة: مؤلفات مختلفة
أزمتُنا أزمة أخلاق (1)
الحمد لله وحده و الصلاة و السّلام على مَن لا نبيَّ بعده
ثمّ أما بعد
فاعلم أخي-حفظك الله- أنّ أزمة الأمّة المسلمة في واقعها المعاصر أزمة أخلاق فالخُلُق الكريم في التّعامل بين الناس يحقق الحياة الطيّبة الكريمة المستقرّة و يوم أن يعود المسلمون إلى القرآن و السّنّة و ينهلون من نفس المعين الذي نهل منه النّبي الأمين –صلّى الله عليه و سلّم- و أصحابه الغُرّ الميامين و هو القرآن الكريم يوم أن تعود إليهم كرامتهم و مكانتهم التي فقدوها فعزُّ المسلم في الإسلام و من تمسّك بهُويّته و تحقيق العبوديّة لله رب العالمين و هي علّة الخلق قال تعالى:« وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» [الذاريات 56]
و العبودية هي منهج حياة شامل يشمل علاقة العبد بربه و علاقة العبد بنفسه و علاقة العبد بغيره من الخلق..فعلاقة العبد بربه في توحيده لله عز و جل و تحقيق العبودية المبنيّة على كمال الذلّ مع كمال التّعظيم و الحبّ فيأتمر بأوامره و ينتهي عن نواهيه و يُصدّق ما أخبر به في كتابه أو على لسان رسوله –صلّى الله عليه و سلّم-
و علاقة العبد بنفسه تكون بتزكيتها و تطهيرها و الحفاظ عليها بعدم تعريضها لعذاب الله.
و علاقة العبد بغيره تكون بحسن المعاملة و دعوتهم إلى كل خير و تحذيرهم من الشرّ و حفظ أعراضهم و عدم ظلمهم و هذا هو موضوعنا الليلة ″ المحافظة على هيبة المسلم ″.
فمن مكارم الأخلاق التي تضمن الحياة الطيّبة المستقرّة للمسلم أن يحافظ على هيبة أخيه المسلم و يستتبع ذلك ما يلي:
1 عدم تتبّع عورة المسلم:
العورة: ما يُستقبح ظهوره للناس حسّيا كان كالعورة المغلظة و التشوّهات أو معنويّا كسئ الأفعال و الأقوال.
و نعني بعدم التتبع: عدم الإستشراف إليها أو التطفّل في البحث عنها أو استقصائها أو تتبعها و الحرص على ذلك. أو هتك ستره بنظر أو سمع أو غير ذلك و قد ستر الله عليه فهو في ستره.
ففي الحديث الذي خرّجه التّرمذي و ابن ماجة و قال الحاكم: صحيح, أنّ رسول الله – صلّى الله عليه و سلّم- قال:« إنَّ الله إذا ستر على عبد عورته في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها في الآخرة و إن كشفها في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها مرّة أخرى».
و عند الإمام مسلم رحمه الله :« لا ستر الله على عبد في الدنيا إلاّ ستره يوم القيامة ».
و قد نهى رسول الله – صلّى الله عليه و سلّم- عن تتبع عورات المسلمين فقال – صلّى الله عليه و سلّم- :« يا معشر مَن آمن بلسانه و لم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتتبع عورة أخيه المسلم يتتبع الله عورته و من يتتبع الله عورته يفضحه و لو كان في جوف بيته » [أخرجه البغوي في السنن13\104]
و قال – صلّى الله عليه و سلّم- لمعاوية رضي الله عنه :« إنّك إن تتبعت عورات النّاس أفسدتهم أو كدت تفسدهم » [أبو داود4888 في الأدب في النهي عن التجسّس و الحاكم 4\378 و قد ورد بمعناه عن أبي أمامة عن النبي –صلّى الله عليه و سلّم- أنه قال:″ إنّ الأمير إذا ابتغى الريبة من الناس أفسدهم″ أخرجه أحمد 6\4 و أبو داود 5889 في الأدب و الحاكم4\378]
و هذا يدلّ على أنّ الحرص على تلمّس العورات و الأسرار من الذنوب التي تمحو الإيمان من القلوب و تستجلب غضب الله و تهديده و فضحه لصاحب هذا الجرم كما أنه فساد للمسلمين و إشاعة للذعر و التوجس و شغل كل منهم بنفسه أو بغيره من المسلمين فيما يضر و لا يفيد و ترك جلائل الأمور و التقصير عن بلوغ الغايات الكبيرة العظيمة. و لهذا حذّرنا الله عز و جل من ذلك و نهانا عنه و توعّدنا إذا اقترفناه فقال سبحانه:« إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ..» [النّور 19].
2 عدم التّجسس عليهم أو سوء الظنّ بهم:
كما نهى الحقّ سبحانه و تعالى عن التّجسس على المسلمين لغير ضرورة شرعيّة أو أن يظنّ بهم سوءًا أو شرًّا فقال سبحانه :« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ » [الحجرات 12]
و قال – صلّى الله عليه و سلّم- :« لا تجسّسوا و لا تحسّسوا و لا تباغضوا و لا تدابروا و كونوا عباد الله إخوانا.. » [البخاري 10\404 و أبو داود و الترمذي و النسائي ؛ الترغيب و الترهيب 4\233 و الموطأ 2\907].
قال الأوزاعي: التجسّس: البحث عن الشئ و التحسّس: الاستماع إلى حديث القوم و هم له كارهون أو يستمع على أبوابهم و في الحديث :« من استمع خبر قوم – و هم له كارهون – صب في أذنه الآنك يوم القيامة » [البخاري و مسلم 2563 و السنّة للبغوي 13\110]
هذا أدب الإسلام و آداب المجتمع المسلم: ينصح و يستر إن رأى شيئا و لا يتجسّس أو يظنّ أو يستمع أو يهتك الأسرار التي قد سترها الله على صاحبها.
أخرج أبو داود و جماعة عن زيد بن وهب, قلنا لابن مسعود:« هل لك في الوليد بن عقبة بن أبي معيط تقطر لحيته خمرا ؟ فقال ابن مسعود: قد نُهينا عن التجسّس فإن ظهر لنا شئ أخذنا به » [أبو داود 4890 و اسناده حسن, و رواه الحاكم في المستدرك 4\377 و صححه و أقره الذهبي جامع الأصول 6\655].
3 عدم غيبته أو رميه بالسّوء:
نهى الحقّ سبحانه و تعالى عن غيبة المسلم فقال تعالى:« وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ» [الحجرات 12]
و قال – صلّى الله عليه و سلّم - :« كل المسلم على المسلم حرام: دمه و عرضه و ماله » [مسلم وا لترمذي]
و قال – صلّى الله عليه و سلّم - :« أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته و إن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته » [رواه مسلم و أبو داود]
كما يرهّب الإسلام من النميمة فيروي حذيفة – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلّى الله عليه و سلّم- أنّه قال:« لا يدخل الجنّة نمّام » و في رواية « قتّات » [متفق عليه]
و معنى النّميمة وحدها: كشف ما يكره كشفه سواء أ كره المنقول عنه أو المنقول إليه أو كره ثالث و سواء كان الكشف بالقول أو الكتابة أو بالرمز أو بالإيماء و سواء كان المنقول من الأعمال أو من الأقوال و سواء أ كان عيبا و نقصًا في المنقول عنه أو لم يكن.
بل حقيقة النّميمة: إفشاء السّر و هتك الستر عما يكره كشفه بل كل ما يراه الإنسان من أحوال الناس مما يكره فينبغي أن يسكت عنه إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع لمعصية تكون ألزم. كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود له.
فإن كان ما ينم به نقصًا و عيبًا في المحكي عنه كان قد جمع بين الغيبة و النميمة. أما إرادة السّوء للمحكي عنه أو إظهار الحبّ أو التفرج بالحديث و الخوض في الفضول و الباطل و التّفريق بين المسلمين.
و قد امر الله و رسوله بالصلح بينهم فقال:« و الصّلحُ خير » [النّساء 128]
و قال تعالى:« فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» [الحجرات 15]
و قال – صلّى الله عليه و سلّم - :« أ لا أخبركم بأفضل من درجة الصيام و الصدقة و الصلاة ؟ قال: قلنا: بلى. قال: إصلاح ذات البين و فساد ذات البين هي الحالقة.. » [رواه أبو داود: 4919 في الأدب و الترمذي رقم: 2511 و هو حديث صحيح و رواه أحمد و ابن حبان في صحيحه و في الباب عند الطبراني و البزار و ذكره المنذري في الترغيب و الترهيب: 3\294 و جامع الأصول: 6\668]
إن كان ذلك فهو الحرام و هي الحالقة كما يذكر الحديث الشّريف.
أقوال العلماء فيمن حملت إليه النّميمة
كل من حملت إليه النميمة فعليه ستة أمور:
أولاً: ألا يصدقه لأن النمّام فاسق مردود الشهادة قال تعالى:« إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» [ الحجرات 6]
الثاني: أن ينهره عن ذلك و ينصح له و يُقبح عليه فعله قال تعالى:« وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ » [ لقمان 17].
الثالث: أن يبغضه في الله.
الرابع: ألاّ تظنّ بأخيك الغائب السوء لقوله تعالى :« اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» [الحجرات 12].
الخامس: أن لا يحملك ما حُكي لك على التحري و البحث لقوله تعالى:« و لا تجسَّسوا » [الحجرات 12].
السادس: ألا ترضى لنفسك ما نهيت النمّام عنه و لا تحكي نميمته لأحد فقد روي عن عمر بن عبد العزيز –رضي الله عنه–: أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئا فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية:« إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا » و إن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية:« همّاز مشّاءٍ بنميم » و إن شئت عفونا عنك فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليها أبدا »[روي مثلها عن علي بن أبي طالب– رضي الله عنه– إحياء علوم الدين 3\157].
هذا و قد رتب الإسلام عقوبات رادعة لمقالة السّوء. فقال تعالى:« وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» [ النّور 4]
و هذا صيانة للأعراض من التّهجم و حماية لأصحابها و قد شدّد القرآن في تلك العقوبة و جعلها قريبة من عقوبة الزّنا: ثمانين جلدة مع إسقاط الشّهادة و الوصف بالفسق.
و العقوبة الأولى: جسديّة
و الثّانية: أدبية في وسط الجماعة و يكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة و أن يسقط اعتباره بين النّاس و يمشي بينهم متّهما لا يوثق بكلامه.
و الثّالثة: دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم ذلك إلاّ أن يأتي القاذف بأربعة شهود يشهدون برؤية الفعل أو بثلاثة معه إن كان قد رآه فيكون قوله صحيحًا : و هذا ما لا يمكن أبدا في شأن المخبر. [ انظر في ذلك التّرغيب و التّرهيب 4\280]
و الجماعة المسلمة لا تخسر شيئًا بالسّكوت عن تهمة النّاس كما تخسر بشيوع الاتّهام و التّرخّص فيه و عدم التحرج من الإذاعة به و تحريض كثير من المتحرّجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها و يظنّونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة, و ذلك فوق الآلام التي تصيب الحرائر الشّريفات و الأحرار الشّرفاء و فوق الآثار التي تترتّب عن ذلك في حياة النّاس و طمأنينة البيوت المستقرّة.
و روي أنّ عمر – رضي الله عنه– كان يمشي بالمدينة ذات ليلة فرأى رجلاً و امرأة على فاحشة فلمّا أصبح قال للنّاس: أرأيتم لو أنّ إمامًا رأى رجلاً و امرأة على فاحشة فأقام عليهما الحد ما كنتم فاعلين؟
قالوا: إنّما أنت إمام فقال علي – رضي الله عنه–: ليس ذلك لك إذًا يقام عليك الحد. إنّ الله لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهود. ثمّ تركهم عمر ما شاء الله أن يتركهم ثم سألهم فقال القوم مقالتهم الأولى و قال عليّ – رضي الله عنه– مثل مقالته الأولى. [ انظر الإحياء 2\200]
و هذا يشير إلى أن عمر – رضي الله عنه– كان مترددا في أن الوالي هل له أن يقضي بعلمه في حدود الله؟ فلذلك راجعهم في معرض التقدير لا في معرض الإخبار خيفة أن لا يكون له ذلك, فيكون قاذفا بإخباره.
و هذا من أعظم الأدلة على طلب الشّرع لستر الفواحش فإنّ أفحشها الزّنا و مع ذلك لم يأذن حتّى للإمام أن يقول فيه.
و روي عن أبي بكر الصّديق – رضي الله عنه– أنّه قال:« لو وجدت شاربا لأحببتُ أن يستره الله, و لو وجدت سارقًا لأحببتُ أن يستره الله » [ المرجع السابق ص: 201]
و إن لم يكن السرّ عورة فإن المحافظة عليه من كمال المروءة و كمال الأمانة.
و في الأثر: قال عيسى لأصحابه :« إذا رأيتم أخا منكم نائما فكشف الريح عن ثوبه؟ قالوا: نستره و نغطّيه فقال: بل تكشفون عورته! قالوا: سبحان الله مَن يفعل هذا؟ قال: أحدكم يسمع من أخيه بالكلمة فيزيد عليها و يشيعها بأعظم منها » [الإحياء 5\213]
فما أحوج المسلمين إلى إحياء الأخوّة الإيمانية من خلال التّحلّي بمكارم الأخلاق و حسن المعاملة حتى ننعم بحياة طيّبة مستقرّة.
و الله الموفّق
كتبه الفقير إلى عفو ربه
أبو أحمد
سيد عبد العاطي بن محمد
إمام و خطيب الجمعية الإسلامية
إقليم السارلند ساربروكن ألمانيا
- التفاصيل
-
نشر بتاريخ: الإثنين، 25 تشرين1/أكتوير 2010 20:59
-
الزيارات: 5685