- التفاصيل
-
كتب بواسطة: admin
-
المجموعة: مؤلفات مختلفة
الحلال بيِّن و الحرام بيِّن
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحقّ ليُظهره على الدّين كلّه وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له إقرارًا به و توحيدًا، و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرًا و نذيرًا و داعيًا إلى الله بأذنه و سراجًا منيرًا، فهدى به من بعد الضلالة وعلّم به من بعد الجهالة و عرّف به من بعد النّكارة، ففتح برسالته أعينًا عميًا و آذانًا صمًّا و قلوبًا غلفًا، وأضاء به الأرض من بعد ظلماتها، وألّف به القلوب من بعد شَتَاتِها و أوضح به المحجَّة وأقام به الحجّة وجعله قسيم الجنّة و النّار و ميّز به بين المؤمنين و الكفار و الأبرار و الفجّار، فاللّهم صلّى وسلّم و بارك عليه و على آل بيته الأطهار و صحبه الأخيار و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
ثمّ أمّا بعد :
اعلم أخي رحمك الله أنّ الأحكام ثلاثة:
الأول : الحلال البيِّن.
الثاني : الحرام البيِّن.
الثالث : مشتبه لخفائه فلا يدري هل هو حلال أو حرام.
هذا التقسيم للأحكام مستفاد من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو في الصحيح و إليك روايات الحديث :
خرّج الإمام البخاري رحمه الله من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال:سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:«إنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُما أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَد ُكُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وهِيَ الْقَلْبُ». ـ وفي رواية :«الحَلاَلُ بيِّنٌ و الحرَامُ بيِّنٌ و بَيْنهمَا أمُورٌ مُشْتَبِهةٌ فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْه مِنْ الإثْم كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أتْرَكَ و مَنْ اجْتَرَأَ على مَا يَشُكُ فيه مِنْ الإثْمِ أَوْشَكَ أنْ يُواقِعَ مَا اسْتَبَانَ، والمَعَاصِي حِمَى الله مَنْ يَرْتَعْ حَولَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يُواقِعَهُ ». [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان \باب فضل من استبرأ لدينه الحديث"52" وفي كتاب البيوع "34" باب الحلال بيّن والحرام بيّن"2" الحديث"2051" ومسلم في كتاب المساقاة/باب أخذ الحلال وترك الشبهات حديث "107\1599"]
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة و هو من الأحاديث التي قرر العلماء أن عليها مدار الإسلام.
قال أبو داود السجستاني رحمه الله : الإسلام يدور على أربعة أحاديث ذكر منها هذا الحديث [الجامعلأخلاق الراوي للخطيب]
وقال الإمام النووي رحمه الله :«حديث الحلال بيّن» حديث عظيم و هو إحدى قواعد الإسلام و أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام ، وشرحه يحتمل أوراقًا بل أطباقًا، و قد جعل جماعة من العلماء هذا الحديث ثلث أصول الإسلام و جعلها جماعة ربعها. [صحيح مسلم بشرح النووي255\1]
و قال الدارقطني رحمه الله : أصول الأحاديث أربعة :« الأعمال بالنيات » و « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » و « الحلال بيّن والحرام بيّن » و « و ازهد في الدنيا يُحبك الله »[الأشباه والنظائر ص9] و قد نظمها أبو الحسن طاهر بن مَفوز رحمه الله في بيتين و هما :
عمدة الدين عندنا كلمـات مسندات من قول خير البرية
اترك الشبهات و ازهد و دع ما ليس يعنيك و اعلمهنَّ بنيّة
[اكمال المعلم بفوائد مسلم 284\5 و الأبيات من جامع العلوم والحكم 63\1]
من جعل أصول الإسلام ثلاث الأحاديث كالزين العراقي الذي نظمها في بيتين هما :
أصول الإسلام ثلاث إنّما الأعمال بالنيات و هو القصد
كذا الحلال بيّن و كل ما ليس عليه أمرنا فرد
[ فيض القدير 429\3]
و هذا الحديث من قواعد الدين و أسسه التي تقوم عليها و لو أمعن الإنسان النظر في هذا الحديث كله من أدلة إلى آخره لوجده متضمنًا لعلوم الشريعة كلها ظاهرها و باطنها و قد أجمع العلماء على عظم شأن هذا الحديث و كثير فوائده و هو من جوامع كَلِم النّبي صلى الله عليه وسلم قوله:« إنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ وَ إِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَ بَيْنَهُما أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ » يعني أن الأحكام ثلاثة كما ذكرنا :
1 فما نَصّ الله تعالى على تعاطيه و تحليله فهو الحلال كقوله تعالى:(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ...) [المائدة:5] و قوله تعالى:(...وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ...) [النساء:24] و قد يراد به المباح فيشتمل الأقوال و الأفعال كما يرى بعض أهل العلم، لكن الحلال فيما يظهر المراد منه في الحديث هو: الخالص من احتمالات و شبهات الحرام و قد انحلت عنه التبعات فلم يتعلق به حقّ لله سبحانه و لاحق لغيره فقد أحلَّه الله لعباده.
2 و ما ذُمَّ فاعله شرعًا و نَصّ الله على تحريمه فهو الحرام أو هو ما ثبت النهي عنه بدليل قطعي لا شبهة فيه و هو ما في تركه الثواب و في فعله العقاب و قد يسمّى : المحظور و المعصية و الذنب و المزجور عنه و القبيح و قد يطلق عليه المكروه - فقد جاء على لسان السلف إطلاق المكروه على المحرم احتياطًا منهم و تورّعًا عن إطلاق الحرام بدون دليل قطعي [انظرالمحصول131\حاشية3]
مثل قول الله تعالى :(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ...)[النساء:23] وقوله تعالى :(...وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا...)[المائدة:96] و كتحريم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و كلّ ما فيه حدًّا أو عقوبةً أو وعيدًا فهو حرام.
3 الشبهات فهي كل ما يتنازعه الأدلّة من الكتاب و السنّة و تجانبه المعاني فالمشتبه الذي يخفى حكمه على كثير من النّاس و إلاّ فهو معلوم عند آخرين فالإمساك عنه ورع.
أقوال العلماء في المشتبهات :
يقول العلامة ابن دقيق رحمه الله تعالى:« وقد اختلف العلماء في المشتبهات التي أشار إليها النّبي صلى الله عليه وسلّم في هذا الحديث :
أ ـ فقالت طائفة : هي حرام لقوله :« استبرأ لدينه و عرضه »،قالوا ومن لم يسبترء لدينه و عرضه فقد وقع في الحرام.
ب ـ و قال الآخرون : هي حلال بدليل قوله صلى الله عليه و سلّم في الحديث:« كالراعي يرعى حول الحمى » فيدل على أنّ ذلك حلال و أنّ تركه ورع .
ج ـ و قالت طائفة أخرى : المشتبهات المذكورة في هذا الحديث لا نقول أنّها حلال و لا أنّها حرام فإنّه صلى الله عليه و سلّم جعلها بين الحلال البيِّن و الحرام البيِّن فينبغي أن نتوقف عنها و هذا من باب الورع أيضًا.
و قد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:« اختصم سعد بن أبي وقاص و عبد بن زمعة في غلام فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إليَّ أنّه ابنه أنظر إلى شبهه و قال عبد بن زمعة هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر رسول الله صلّى الله عليه و سلّم فرأى شبهًا بيّنًا بعتبة فقال:« هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش و للعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة » [البخاري في الوصايا\ باب قول الموصي لوصيّة الحديث:2745 ومسلم في الرضاع\باب الولد للفراش حديث:36\1457 ] فلم تره سودة قط، فقد حكم رسول الله صلّى الله عليه و سلّم بالولد للفراش و أنّه لزمعة على الظاهر و أنّه أخو سودة زوج النّبي صلّى الله عليه و سلّم لأنّها بنت زمعة و ذلك على سبيل التغليب لا على سبيل القطع ثمّ أمر سودة بالإحتجاب منه للشبهة الداخلة عليه فاحتاط لنفسه و ذلك من فعل الخائفين من الله عزّ و جلّ إذ لو كان الولد ابن زمعة في علم الله عزّ و جلّ لما أمر سودة بالإحتجاب منه كما لم يأمرها بالإحتجاب من سائر أخوتها عبد و غيره .
و في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إني أرسل و أسمي عليه فأجد معه على الصيد كلبًا آخر قال:« لا تأكل إنّما سميت على كلبك و لم تسمّ على غيره»[أخرجه مسلم في الصيد \ باب الصيد بالكلاب المعلَّمة حديث:3\1929] فأفتاه رسول الله صلى الله عليه و سلّم بالشبهة أيضًا خوفًا من أن يكون الكلب الذي قتله غير مسمى عليه فكأنَّه أُهلَّ لغير الله به و قد قال تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ )[الأنعام:121]
فكان في فتياه صلى الله عليه و سلّم دلالة على الإحتياط من الحوادث و النوازل المحتملة للتحليل و التحريم لاشتباه أسبابها و هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلّم: « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»[أخرجه أحمد:1\200 والترمذي:2518 وقال:حسن صحيح ]
و قال بعض العلماء : المشتبهات ثلاثة أقسام :
القسم الأول: ما يعلم الإنسان أنَّه حرام ثم يشك فيه هل زال تحريمه أم لا كالذي يحرم على المرء أكله قبل الذكاة و الأصل في ذلك حديث عدى المتقدم ذكره.
القسم الثاني: عكس ذلك أن يكون الشيء حلالاً فيشك في تحريمه كرجل له زوجة فشك في طلاقها أو أمة فيشك في عتقها فمن كان من هذا القسم فهو على الإباحة حتى يعلم تحريمه و الأصل في ذلك حديث عبد الله بن زيد فيمن شك في الحدث بعد أن تيقن الطهارة، فعن عبّاد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم المَازِنيّ رضي الله عنه قال: شُكِيَ إلى النّبي صلى الله عليه وسلّم الرَّجُلُ يُخَتَّلُّ إليهِ أنّه يَجِدُ الشَيءَ في الصَلاة فقال:« لا ينصرفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أو يَجِدَ رِيحًا » [أخرجه البخاري:137 الوضوء ومسلم:361 الحيض]
القسم الثالث: أن يشك في شيء فلا يدري أحلال أم حرام و يحتمل الأمريْن جميعًا و لا دلالة على أحدهما فالأحسن التنزه كما فعل النّبي صلى الله عليه و سلّم في التمرة الساقطة حين و جدها في بيته فقال:« لو لا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها »[أخرجه البخاري في صحيحه كتاب البيوع 34\ باب ما يُتنزَّه من الشبهات 4 الحديث 2055 (4\293) ومسلم في صحيحه:2\752 كتاب الزكاة:2 باب تحريم الزكاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:50 الحديث (164\107)]
و أما جوز نقيص ما ترجح عنده بأمر موهوم لا أصل له كترك استعمال ماء بارد على أوصافه مخافة تقدير نجاسة وقعت فيه أو كترك الصلاة في موضع لا أثر فيه مخافة أن يكون فيه بول قد جف أو كغسل ثوب مخافة إصابة نجاسة لم يشاهدها و نحو ذلك فهذا يجب أن لا يلتفت إليه فإن التوقف لأجل ذلك التجويز هوس و الورع منه وسوسة شيطان إذ ليس فيه معنى الشبهة و الله أعلم. [راجع كلام العلامة بن دقيق في كتاب:الرياض الندية شرح الأربعين النووية ص:55 وما بعدها بتصرف طبعة دار البصيرة الإسكندرية]
الاشتباه أمر نسبي :
قال أهل العلم: الاشتباه أمر نسبي ليس بمطلق فلا يقع لجميع النّاس و لا يكون أصليًا في دلالة النصوص، قال الله تعالى: ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)[الأنعام:38] إنّما يعرض لأفهام النّاس و يزول بالإجتهاد و الإطّلاع و الإستقراء و لذلك يقلّ في العلماء و لا يمكن أن يقع في المسائل العملية عند جميع العلماء.
أقسام النّاس تجاه الشبهات :
قال أهل العلم: و النّاس تجاه الشبهات أقسام ثلاثة :
الأول: من يتقي هذه الشبهات لاشتباهها عليه فهذا قد استبرأ لدينه و عرضه.
الثاني: مَنْ يقع في الشبهات فقد عرّض نفسه للوقوع في الحرام.
الثالث: مَنْ كان عالمًا بحكمها و اتّبع ما دلَّه علمه فيها و لم يذكره النّبي صلّى الله عليه و سلّم لظهور حكمه و هذا القسم هو أفضل الأقسام لأنّه يحكم حكم الله في هذه الشبهات و عمل بعمله.
و قوله صلّى الله عليه و سلّم:« لا يَعْلَمُهُنَّ كثيرٌ من النّاس» أي لا يعلم حكمهنّ من التحليل و التحريم، و إلاّ فالذي يعلم الشبهة يعلمها من حيث أنّها مشكلة لتردّدها بين أمور محتملة فإذا علم بأي أصل تلتحق زال كونها شبهة و كانت إمّا من الحلال أو من الحرام و فيه دليل على أنّ الشبهة لها حكم خاص بها عليه دليل شرعي يمكن أن يصل إليه بعض النّاس كما ذكرنا أنّ الاشتباه أمر نسبي وليس مطلقًا.
وقوله:« فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه و عرضه » يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى:« استبرأ لدينه فيما بينه وبين الله واستبرأ لعرضه فيما بينه و بين النّاس بحيث لا يقولون: فلان وقع في الحرام حيث إنّهم يعلمونه و هو عنده مشتبه، ثمّ ضرب النّبي صلّى الله عليه و سلّم مثلاً لذلك بالراعي يرعى حول الحمى: أي حول الأرض المحمية التي لا ترعها البهائم فتكون خضراء لأنها لم ترعى فإنها تجذب البهائم حتى تدب إليها و ترعاها» فقال صلّى الله عليه وسلّم:« كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتَعَ فيه »[راجع شرح العلامة ابن عثيمين لهذا الحديث كتاب:الرياض الندية شرح الأربعين النووية ص:59 وما بعدها بتصرف طبعة دار البصيرة الإسكندرية]
و قوله صلّى الله عليه وسلّم:« كالرَّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه » قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى:« هذا مثل ضربه لمحارم الله عزّ و جلّ و أصله أن تكون العرب تحمي مراعي لمواشيها و تخرج بالتوعد بالعقوبة إلى من قربها فالخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته عن ذلك الحمى لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع فيه لأنه قد تنفرد الفذة و تشذ الشاذة و لا ينضبط فالحذر أن يجعل بينه و بين ذلك الحمى مسافة يأمن فيها وقوع ذلك، و هكذا محارم الله عزّ و جلّ من القتل و الرِّبا و السرقة و شرب الخمر و القذف و الغيبة و النميمة و نحو ذلك لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها » [الرياض الندية شرح الأربعين النووية ص:58 وما بعدها]
و قوله صلّى الله عليه وسلّم:« ألا وإنّ لكل ملك حمى ألا وإنّ حمى الله محارمُه » يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى:« يعني أنه جرت العادة بأنّ الملوك يحمون شيئًا من الريافي التي يكون فيها العشب الكثير و الزرع الكثير « ألا و إنّ حمى الله محارمه» أي ما حرّمه على عباده فهو حماه لأنّه منعهم أن يقعوا فيه. [الرياض الندية شرح الأربعين النووية ص:58 وما بعدها]
قوله صلّى الله عليه و سلّم:« ألا و إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه و إذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا و هي القلب »
المضغة : القطعة من اللحم و هي قدر ما يمضغه الماضغ يعني بذلك صغر جرمها و عظيم قدرها فبصلاحها صلاح الجسد كلّه و بفسادها فساد الجسد كلّه و في هذا إشارة إلى أنّه يجب على الإنسان أن يرعى ما في قلبه من الهوى الذي يعصف به حتى لا يقع في الحرام و الأمور المشتبهات فالقلب سريع التقلّب و قد أنشد البعض :
ما سمي القلب إلا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب و تحويل
فالواجب على الإنسان أن يهتم بصلاح قلبه و تزكيته بتوحيد ربّه و تحقيق العبوديّة الحقّة لخالقه جلّ و علا.
ما يستفاد من هذا الحديث :
ذكر العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى عدة فوائد لهذا الحديث منها :
أولاً : أن الشريعة الإسلامية حلالها بيِّن و حرامها بيِّن و المشتبه منها يعلمه بعض النّاس.
ثانيًا : أنّه ينبغي للإنسان إذا اشتبه عليه أمر أحلال هو أم حرام أن يتجنبه حتى يتبيّن له أنّه حلال.
ثالثاً : أن الإنسان إذا وقع في الأمور المشتبهة هان عليه أن يقع في الأمور الواضحة فإذا مارس الشيء المشتبه فإن نفسه تدعوه أن يفعل الشيء البيِّن و حينئذٍ يهلك.
رابعاً : جواز ضرب المثل من أجل أن يتبيّن الأمر المعنوي بضرب الأمر الحسّي أي أنّ تشبيه المعقول بالمحسوس ليقرب فهمه.
خامساً : حُسن تعليم الرسول صلّى الله عليه و سلّم بضربه للأمثال و توضيحها.
سادساً : أن المدار في الصلاح و الفساد على القلب و ينبني على هذه الفائدة أنّه يجب على الإنسان العناية بقلبه دائمًا و أبدًا حتى يستقيم على ما ينبغي أن يكون عليه.
سابعاً : أن فساد الظاهر دليل على فساد الباطن لقول النّبي صلّى الله عليه و سلّم في هذا الحديث :« إذا صلحت صلح الجسد كلّه و إذا فسدت فسد الجسد كلّه » فساد الظاهر عنوان فساد الباطن.
ثامناً : في الحديث دليل على أنّ تبرئة العِرض أمر مطلوب شرعًا فينبغي على العبد أن يحرص على الإبتعاد عن كل ما يدنّس عِرضه و يُعرِّض سمعته أو أهله أو ذريّته لقالَّة السوء .
راجع حديث أمّ المؤمنين صفية رضي الله عنها عندما أتت النّبي صلّى الله عليه و سلّم في المعتكف و قام معها ليقلبها.
تاسعاً : في الحديث دليل على قاعدة "سدّ الذرائع" المفضية إلى المحرمات و تحريم الوسائل إليها.
عاشراً : في الحديث دليل على اعتبار قاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" بالتباعد مما يخاف الوقوع فيه و إنّ ظنّ السلامة في مقاربته.
والله الموفق.
كتبه الفقير إلى عفو ربه
أبو أحمد سيد عبد العاطي بن محمد
إمام و خطيب الجمعية الإسلامية بالسارلند ساربروكن ألمانيا
غفر الله له و لوالديه و لزوجه و ولده و للمسلمين والمسلمات
- التفاصيل
-
نشر بتاريخ: الخميس، 24 آذار/مارس 2011 21:37
-
الزيارات: 9419